الديبلوماسية اللبنانية: القرار 1701 يصارع من أجل البقاء

الديبلوماسية اللبنانية: القرار 1701 يصارع من أجل البقاء

  • ٢٥ كانون الثاني ٢٠٢٤
  • فتاة عيّاد

لعلّ أخطر الدلالات التي حملها موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بقوله أنّ «الحديث عن تهدئة في لبنان فقط بمعزل عن غزة أمر غير منطقي»، ليس الربط مباشرة بين حرب غزة وحرب جنوب لبنان ، وهو ربط واقعي، لجبهة أسماها حزب الله «مساندة» لجبهة «حماس» في غزة، وأرادتها إيران جبهة مفاوضات يعاد فيها رسم شرق أوسط جديد بدماء فلسطينية ولبنانية وعراقية وسورية ويمنية... بل بـ «تشريعه» لهذا الربط، من منصبه كرئيس حكومة تصريف الأعمال وممثل الشرعية اللبنانية، والناطق الأعلى بإسم الديبلوماسية اللبنانية، في ظل الشغور الرئاسيّ.

خطاب ميقاتي الذي يتماهى مع خطاب «حزب الله»، المتحكّم بقرار الحرب والسلم في لبنان على حساب الشرعية، منذ ما قبل الحرب المستعرة جنوباً بدءًا من 8 أكتوبر الماضي، يعني أنّ الدولة اللبنانية تحوّلت من غير قادرة على تنفيذ القرار 1701 في الداخل اللبناني(إنشاء منطقة عازلة جنوباً وإنتشار الجيش اللبناني وإبعاد قوات «حزب الله» العسكرية إلى شمال الليطاني)، إلى متواطئة في التفاوض بإسم «حزب الله»، لا الشعب اللبناني، وهو ما تجلّى سابقاً بالترسيم البحري، والتخوّف من إمتداده ليطال الترسيم البرّي، ضمن معادلة إسترجاع الأرض اللبنانية المحتلة، مقابل السلام في مستوطنات شمال إسرائيل، حيث يكمن الشيطان في تفاصيل الضمانات التي ستعطى ل«حزب الله» في حال التوصل الى تسوية تنهي الصراع الجنوبي.

وفي هذه الأثناء، يخسر لبنان دوره الديبلوماسي في تثبيت القرار 1701 ويترك الحكم للميدان. وصحيح أنّ للصراع اللبناني-الإسرائيلي تاريخ من ضرب إسرائيل لقرارات الشرعية الدولية. لكن مع ذلك، شكّلت قرارات مجلس الأمن المتعلقة بهذا الصراع، بدءًا من هدنة العام 1949، وصولاً الى القرار 1701 الذي أنهى حرب تموز 2006، إحدى أقوى ضمانات لبنان بوجه إسرائيل في الشرعية الدولية.

لبنان الدولة التي إنتزعت القرار الأممي رقم 425 في أوج الحرب الأهلية ضدّ إحتلال إسرائيل للجنوب اللبناني، غير قادرة اليوم على تطبيق القرار 1701 حتى على المستوى الداخليّ.  فماذا يخسر لبنان اليوم  بتجيير الديبلوماسية اللبنانية لصالح «حزب الله» على حساب مصالح الدولة العليا والشعب اللبناني، أو بالحد الأدنى، ضعف تلك الديبلوماسية في أوج الإنهيار والشغور الرئاسي؟

 

 

425... وصولا للهدنة

لا تكفّ إسرائيل التي تستبيح السيادة اللبنانية منذ صدور القرار الأممي 1701 على أثرحرب تموز عام 2006، عن التهديد بتطبيق هذا القرار ولكن من جهة لبنان وحده. وآخر التهديدات المترافقة مع تصعيد غير مسبوق جنوباً، إن بنوعية الضربات الإسرائيلية أو تخطي بعضها جنوب الليطاني، فقد جاء على لسان وزير الدفاع الاسرائيلي «يوآف غالانت» بالقول: «إنْ لم يتمّ التوصّل إلى إتفاق يحترم فيه «حزب الله » حقّ سكان شمال إسرائيل في العيش بأمان، فسنضطر لفرض الأمن بالقوّة».

في مراجعة سريعة للقرارات الأممية المتعلقة بالصراع اللبناني-الإسرائيلي يتضح أنّ لتلك القرارات دورٌ محوريّ كونها مستندات قانونية صادرة عن الشرعية الدولية بوجه العدوان الإسرائيلي. بيدَ أنّ الخطر يكمن اليوم بإستغلال إسرائيل لجبهة الجنوب المفتوحة على مصراعيها، لإضعاف وضع لبنان تجاه قرارات الشرعية الدولية وقلب هذه المعادلة ضدّه.  

القرار الأممي رقم 425 عام 1978، الذي دعا إسرائيل إلى التوقف فوراً عن عملياتها العسكرية ضد سلامة لبنان الإقليمية، وإنشاء القوة المؤقتة لحفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بعد إجتياح قرابة 25 ألف جندي إسرائيلي لجنوب لبنان في ماعرف حينها بـ «عملية الليطاني».

المفارقة أنّ إسرائيل برّرت إجتياحها حينها بـ«حماية مناطقها الشمالية من هجمات مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية». أما اليوم، فهي لا تكتفي بالعدوان العسكري بل تسعى للضغط في الأوساط الديبلوماسية، بهدف  الإطاحة بالقرار 1701 أو تعديله لصالحها، وبرز جلياً في الشكوى التي قدمتها  ضدّ لبنان الى مجلس الأمن مؤخراً، تزامناً  مع رفض مستوطنيها العودة إلى القرى التي غادروها بعد 7 اكتوبر2023، وهو مؤشر على لبنان الإلتفات إليه، إذ أنّ إسرائيل تستخدم جميع أوراقها ضدّ لبنان لفرض شروطها، بما فيها الشروط الديبلوماسية.

 

القرارات الأممية: سند قانونيّ للبنان

 

إسرائيل رغم ترسانتها العسكرية والدعم الغربي اللامتناهي لها تاريخياً، لم تفلت من الشرعية الدولية  التي إكتسبها لبنان وهي حقّه في السيادة والإستقلال على كامل أراضيه وصولاً الى حقّه في مقاومة إسرائيل والذي أقرّ في هدنة نيسان عام 1996.

وفي هذا السياق، يقول الناشط السياسي والأستاذ الجامعي علي مراد في حديثه لـ «بيروت تايم»، «القراران 425 و426 من القرارات المهمة جداً حتى على مستوى الأمم المتحدة، إذ يُسجل للديبلوماسية اللبنانية بشخص غسان تويني إنتزاعها للقرارين في أوج الحرب الأهلية والإنقسام اللبناني داخلياً».  

أما عام 1996، «فاستطاعت المقاومة اللبنانية بكل فصائلها عبر ما عرف بتفاهم نيسان حماية الحق المكرّس في القانون الدولي، وهوحقّ مقاومة الشعوب للإحتلال، وهذا ما كرّس شرعية حقّ الشعب اللبناني في المقاومة ومنع إسرائيل من قصف المدنيين، ومهّد لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي عام 2000، و ما أثبت بدوره أهم درس لنا منذ القرار 425 وصولاً لهدنة نيسان، وهو أنّ الديبلوماسية اللبنانية قادرة أن تدعم إنهاء الاحتلال». وفق ما يراه مراد.

ويضيف «صحيح أنّ القرار 425، أو الإنسحاب الاسرائيلي من الجنوب وإنهاء الإحتلال (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا) لم يُنفَذ من قِبَل إسرائيل بقدر ما فُرض من قبل المقاومة بكافة تنظيماتها منذ العام 1978 وصولاً للعام 2000، لكن وجود هذه القرارات الأممية، كسند قانوني، كانت دعامة أساسية لصالح لبنان ضدّ الإحتلال الإسرائيلي، وهنا تكمن أهميتها».

 

القراران 1559  و1701... واللحظة الإقليمية المؤاتية

 

عام 2004، وقبل إغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري بأشهر، صدر قرار مجلس الأمن رقم 1559 ليؤكد المطالبة «بالإحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته وإستقلاله السياسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها دون منازع في جميع أنحاء لبنان».

وقد تمّ تطبيق البند الذي ينصّ على «مطالبة جميع القوات الأجنبية المتبقية بالإنسحاب من لبنان» بعد إغتيال الحريري، في لحظة سياسية وإقليمية مفصلية، فيما بند حلّ جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها، يراوح مكانه حتى يومنا هذا.  

وعليه، يلفت مراد إلى أنّ القرار 1559 هو قرار إشكالي على المستوى اللبنانيّ. فتسليم السلاح يحظى بإنقسام داخلي كبير، في حين أنّ التقاطع الدولي حول إعادة النظر بالوصاية السورية على لبنان، مع رغبة لبنانية بإنهائها، أفضى لتطبيق بند إنسحاب القوات الأجنبية من بلاد الأرز.

وعلى قاعدة تناسب الفعل بردة الفعل، يشير مراد إلى أنّ «نظريات المؤامرة ترافقت مع القرار 1559 لكن «لنتذكر بأنّه تمّ تسليم لبنان للنظام السوري بغطاء دولي وبالتالي لم يكن من الممكن الخروج من هذه الوصاية سوى بقرار دولي آخر».

كذلك، يأتي القرار 1701 في لحظة إقليمية حرجة، ومع تقاطع دولي حول ضرورة عدم جرّ الساحة اللبنانية الى حرب شاملة. أقلّه في المواقف المعلنة لا سيّما من الدول المؤثرة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتي تأتي بعد أشهر على الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، وطرح مسألة الترسيم البرّي، الذي كانت قد جُمّدت المساعي بصدده على وقع أحداث 7 أكتوبر2023.

يعلّق مراد على خطورة تفلّت إسرائيل حالياً من القرار 1701، بالإشارة إلى أنّه من مصلحة الدولة والمجتمع اللبناني، أن لا يتمّ إنهاء مفاعيل هذا القرار، فهو ضمانة للبنان خلال أو بعد مرحلة غزة لناحية التعامل مع الواقع الجنوبيّ. وبالتالي، فهذا القرار يحمي لبنان من المخاوف الجدية من أن تكون إحدى نتائج حرب غزة، الإطاحة بالقرار أو تعديله.

في المقابل، يحذّر من أنّ عدم العودة للقرار 1701 بشروطه ما قبل 7 اكتوبر2023، سيعني حكماً أنّنا ذاهبون لنزاع مسلح أو حرب مفتوحة في جنوب لبنان، لا مصلحة فيها لأحد لا شعباً ولا دولة.

 

خلف: الشرعية الدولية كضمانة للإستقرار

 

بدوره، يشدّد النائب ملحم خلف، في حديثه لـ«بيروت تايم» بأنّ لبنان يقرّ بالشرعية الدولية ويتمسك بها، شرط أن تطبق من قبل طرفي النزاع لا من قبل الجانب اللبناني وحده، في حين فشلت الشرعية الدولية بإلزام الكيان الإسرائيلي بمقرراتها وإداناتها بحقه تاريخياً، والتي تخطت الـ131 قراراً.

ففي وقت يتمسك لبنان بإحترام الشرعية الدولية، «تضرب إسرائيل عرض الحائط قرارات الشرعية الدولية ، وهو ما يعكس إزدواجية المعايير المعطلة بنظام الفيتو، الذي يكرّس تفلت إسرائيل من الشرعية الدولية وغياب المساواة بين أعضاء مجلس الأمن، على حساب العدالة».

ويضيف خلف أنّ العدالة الدولية، لا تطبّق إلّا عبر إلزام الأطراف الدولية للقرارات بما قبلته على نفسها، في حين لا يمكن لإسرائيل الإستمرار في التعالي على العدالة والتهرّب من تطبيق تلك القرارات الملزمة.

لبنانياً، يشدّد خلف على أهمية القرارات الأممية المتعلقة بالنزاع اللبناني-الإسرائيلي، كإحدى أبرز ضمانات لبنان بوجه العدوان الإسرائيلي، شرط إحترام الشرعية الدولية ومقرراتها من الأطراف كافة، ما يضمن تطبيق تلك القرارات وإنفاذ العدالة.

 

القرار 1701: وإنتخاب رئيس للجمهورية

 

هذا ويحذّر خلف من أنّ مجرد الحديث عن إمكانية تعديل القرار 1701 يفرض على لبنان أن يكون حاضراً بقوة في المحافل الدولية، ولكن الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، وفي ظل حكومة تصريف الأعمال والإدارة المشلولة، وعدم الوعي السياسي لضرورة إعادة إنتظام الحياة العامة التي تفرض بشكل أولي إنتخاب رئيس للجمهورية يكون رأس الدولة ورأس الحربة في تثبيت مفاعيل القرار 1701، كلّها ظروف تزيد من خطر عدم تثبيت هذا القرار في ظل تراجع الديبلوماسية اللبنانية.

فلبنان غير موجود في أغلب لقاءات المنطقة المتعلقة بحرب 7 أكتوبر. وفي وقت تتحضر فيه المنطقة لتثبيت أدوار سياسية ، نرى لبنان غائباً أو مستبعداً، وإستمرار الشغور في الرئاسة الأولى، في أخطر مرحلة من تاريخ لبنان، وسط خطر تصنيفنا بالدولة الفاشلة، ومع تدمير دولة المؤسسات، لم يبقَ لنا مخرج إلّا تحصين الجبهة الداخلية، وعودة إنتظام الحياة السياسية، عبر إنتخاب الرئيس، وتقوية موقف لبنان الديبلوماسي في المحافل الدولية.

خلف الذي أطلق  «المواجهة المدنية بوجه الإنقلاب»، بعد عام على إعتصامه في المجلس النيابي من أجل إنتخاب رئيس للجمهورية  يؤكد أن «لا واجب دستوري يعلو فوق واجب الإجتماع فوراً وبحكم القانون لإنتخاب رئيس الدولة، عند خلو سدة الرئاسة»،و يعتبر أننا في حالة إنقلابية علّقت أحكام الدستور، ودمّرت مؤسسات الدولة، وقيّدت القضاء، وقوّضت الشرعية، ولا خروج من تلك الحالة إلا بحالة مدنية سلمية من أولى أهدافها إعادة نفاذ مواد الدستور المعلقة أحكامه، وفي طليعتها إنتخاب رئيس للجمهورية.

 

الدولة... غائبة

ومن لبنان غسان تويني في المحافل الدولية وتكريس القرار 425 ضد إسرائيل في أوج الحرب اللبنانية، إلى لبنان الشغور الرئاسيّ عام 2024. شغور لا ينطبق فقط على الساحة الجنوبية التي يشغلها «حزب الله» عسكرياً، بل إنّ الدولة اللبنانية بقواها الشرعية غائبة، عسكرياً وديبلوماسياً عن المواجهة، ما يعني أنّ مصير القرار 1701 ليس وحده المهدّد، بل الدولة اللبنانية نفسها.