ثلاثة دروس من الحرب الأهلية، لم نتعلمها بعد

ثلاثة دروس من الحرب الأهلية، لم نتعلمها بعد

  • ١٣ نيسان ٢٠٢٤
  • يوسف غصيبة
  • جورج طوق

ثلاثة دروس، في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، يبدو جليًّا، أنّنا لم نُتقنها بعد. وهي، إن تعلّمناها، قد تضعنا على سكّة الخروج من جولات الصراع والعنف والإنهيارات المتتالية.

بعد ٤٩ عاماً على اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان، مازلنا عالقين في دوّامة الصراعات المزمنة والدمّ والتسلّط وانعدام الأمان والإستقرار. دوّامةٌ لا يلوح الخروج منها في الأفق القريب. هذا العطب، الذي يبدو عصيًّا على المعالجة، يدفع اللبنانيّين نحو اليأس والاستسلام وقبول مرارة الواقع. فيما يجزم التاريخ، بدروس ٍ من مختلف بقاع العالم، بأنّ دوّامات الصراعات محكومةٌ، مع النضال والصبر، بنهايات ٍ سعيدةٍ. والثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأميركية خير الدروس تلك. وبعض الدروس لا يمكن إتقانها، إلاّ عبر خوض تجاربها.

«من لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين أمام أحد، ليسوا أهلا ً بثقة أحد» - توماس پاين

الدرس الأول: خطورة السياسيّ «ما فوق» المحاسبة.

لم يحصل، عند غياب المحاسبة، أن بقي سياسيٌّ على اتّزانه الأخلاقي والإنسانيّ. هذة طبيعة بشريّة وقاعدة عالميّة ثابتة. وهي ليست فقط سياسيّة. للإفلات من العقاب مفاعيل إدمانيّة خطيرة وتصاعديّة، وغالبًا ما يُفضي إلى نتائج كارثيّة. أيقن العقلاء القاعدة تلك منذ زمن ٍ بعيد، وما الأنظمة والقوانين والعقود الإحتماعيّة ومفاهيم الدولة إلّا نتيجة اليقين هذا. وفي الزعماء، "ما فوق المحاسبة"، مستويان إثنان: المحاسبة الكيانيّة، كالأحزاب مثلاً، والمحاسبة الشعبيّة.

على مستوى الكيانات الحزبيّة في لبنان، لا يقدر أي ّ من منتسبيها، كسر قرار حزبه، أو - لا سمح الله - الإطاحة برئيسه أو حتّى مساءلته. فالرئيس هو الملهم: الرئيس القوي، القائد الحكيم، البيك المتبصّر، السماحة المعصومة، والأستاذ الأزليّ.

أمّا في المحاسبة الشعبيّة، فإن نسبةً، تناهز الثمانون بالمئة، من المواطنين يقترعون للفلك الحزبيّ نفسه طيلة حياتهم، مهما ارتكب حزبه المحظوظ هذا.
حسب أبسط قواعد الطبيعة البشريّة، يُخرج، لا محالة، غياب المحاسبة، المرافق لعمى الولاء، أسوأ ما في القادة هؤلاء، حتّى ولو انطلقوا، في بداياتهم، قدّيسين. ناهيك عن بداياتهم الميليشياوية والدمويّة، وهم، فوق كلّ ما سبق، فوق المحاسبة أيضاً. 

«من الحماقة أن تعتقد أنك ستحصل على نتائج مختلفة وأنت تكرر نفس الشيء» - ألبرت
أينشتاين
الدرس الثاني: إعادة ارتكاب نفس الأخطاء.
عند القيام بنفس الخيارات، لن يكون الحصاد مختلفًا. إنّها، أيضاً قاعدة بشريّة وحتميّة في كل ّ مجال. ليس استغراب عدم تحسّن الوضع اللبنانيّ صائبًا، ونحن نعيد الخيارات نفسها، لا سيّما، تلك التي أوقعتنا في الهاوية العميقة التي نحن فيها. ترتبط الإعادة المزمنة للخيارات نفسها بنقطةٍ من الدرس الأول: الإلتزام الأعمى لمدى العمر والتغييب التام للمحاسبة. وتتّصل، أيضاً، بنوعيّة خياراتنا السياسيّة. الجوهر، بغض ّ النظر عن المضامين السياسيّة، هو في غياب القدرة على تقييم خياراتنا وتغييرها عند اقتضاء الأمر . لا زيجات مارونيّة في الخيارات السياسيّة. لا انتماءات أوّليّةٌ ولا عواطف. بل مسؤوليّة ورؤية وثقافة جماعيّة، تبدأ في الخروج عن مفاهيم ما قبل الدولة، ثم تلتزم بعقدٍ اجتماعيٍّ عاقلٍ، وتنطلق، بدولةٍ، نحو المستقبل. 

«فكّر كما تشاء أنت، ودع الآخرين يستمتعون بفعل المثل أيضاً» - ڤولتير
الدرس الثالث: رُهاب الآخر.
قيل، ما لا يُحصى ولا يُعدّ، في خبث تأجيج التخويف من الآخر، من قبل كلّ زعامات الجماعات الطائفيّة، وتسخيره في السيطرة والتسلّط: الطريق الأسرع إلى السلطة في لبنان. مع سبق الإصرار والتصميم، تُسند الكيانات الحزبيّة الطائفيّة خطابها إلى سرديّات تاريخيّة متّصلة بالكراهية وشرّ الجهات الأخرى. تستحضر، على سبيل المثال، الأحزاب المسيحيّة زمن الإضطهاد في كلّ رواياتها السياسيّة، ولا تغيب سرديّة المظلوميّة التاريخيّة عن منابر الثنائي الشيعيّ، كما يرافق الإحباط السنّي أدبيّات أحزابه. يهرب الساسة، إلى ملاذ الإنقسام الطائفيّ والمناطقيّ والعشائريّ من مشقّة التطرّق إلى حاجة المواطنين للحريّة والأمان والاستقرار والتعليم والطبابة وفرص العمل والخدمات الأساسية والبنى التحتيّة والعدالة والعيش الكريم. رغم أنّها، في الأساس، مفاهيم وهموم جامعةومشتركة بين كل ّ اللبنانيين، إلا ّ أنّ زعماء الطوائف يختارون، عند كلّ استحقاق، التعصب والتخويف وشبح الآخر، طريقًا مختصرةً ومضمونة لاستمرار الإطباق على مفاصل القرار والحكم. يقدّمون أنفسهم منقذي طوائفهم وحماة مصالحها. وفي ذلك، خبث ونفاق وبحث تفاهة.

في الواقع، ليس البطل الخارق والمخلّص لجماعته هو ما نحتاج إليه. كل ّ ما نحتاجه هو مسؤولين في الدولة والإدارة، يقومون بواجبهم في خدمة المواطنين وحماية مصالحهم وازدهارهم ومستقبلهم. يعودون إلى منازلهم إن عجزوا، ويرتقون إن أنجزوا، وإن ارتكبوا يُساقون إلى العدالة والسجن. 

«أولئك الذين لا يمكنهم تغيير رأيهم، لا يمكنهم تغيير أي ّ شيء» - جورج برنارد شو

أيقظت ثورة ١٧ تشرين قناعةً عميقة، عند كثيرين. بأن مصالح اللبنانيين وهمومهم هي واحدة، على تنوعّهم. نجحت القوى الثوريّة في كسر الحواجز الطائفيّة والعشائريّة والمناطقيّة فيما بينها، إلا ّ أنها لم تفلح، حتّى الساعة، في صياغة رؤية ومشروع سياسيّين متكاملين يجيبا على الهموم المشتركة تلك. قد يصبح ذلك متاحاً عند نضوج كيانات وأحزاب سياسيّة عابرة لكل ّ الحواجز المتوارثة، تحمل الظاهرة التشرينيّة من الخطاب النظري ّ إلى العمل السياسيّ الفعلي والوطنيّ والقادر على استقطاب أكثريّة لبنانيّة تنقذ لبنان من ترهات ومغامرات زعماء الحرب.