حارتنا صغيرة وكلنا نعرف بعضنا البعض جيداً.. قيم التعفّف وباعة الوهم
حارتنا صغيرة وكلنا نعرف بعضنا البعض جيداً.. قيم التعفّف وباعة الوهم
الأبعاد القيمية التي يُقدم «حزب الله» نفسه من خلالها، قد تنفع على بعض الناس، إلا أنّ لبنان، وحياته السياسية والعامة، تدلنا على حقيقة واحدة بدائية، وهي أن لا أنصاف آلهة هنا.
عند حزب الله «عميد» للأسرى، وهو لقب أطلقه الحزب يوماً على سمير القنطار الذي مكث 29 سنة في سجون إسرائيل، وأُفرج عنه ضمن صفقة تبادل عام 2008. غير أنّ لدى الحزب «عميد» آخر لم يمكث في سجون إسرائيل، إنّما في سجون الحزب نفسه.
في 21 نيسان الجاري، توفي الصحافي الأميركي «تيري أ. أندرسون» في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما كان الرهينة الأجنبية التي أمضت أطول مدة احتجاز لدى «حزب الله»، من العام 1985 إلى العام 1991.
قلب «أندرسون» خانه ومات إثر جرحة قلبية، لكن ذاكرته لم تخُنه يوماً. دوّن الرجل كلّ ما مرّ به فترة احتجازه في كتابه الوحيد الذي حمل عنوان «عرين الأسود»، وذكر فيه تجربته الشخصية مع عملية الاختطاف وما تلقاه من معاملة، والجهود المبذولة للإفراج عنه.
وإن كان للبدّ من المقارنة بين «العميد» القنطار الذي توفي في سوريا عام 2015، وبين «العميد» أندرسون الذي مات في أميركا، يتضح أنّ الأخير أفضل شأناً من الأول وأرفع قيماً. على الأقل، لم يقتل «أندرسون» أحداً ولم يخطف أحداً، بل كان رهينة خُطفت بسبب عملها الصحفي، بينما القنطار دخل إلى نهاريا في شمال إسرائيل عام 1979 وقتل أربعة أشخاص بينهم طفلة لم يتجاوز عمرها الأربع سنوات.
وللأمانة، لم يخطف «حزب الله» الصحافي الأميركي لأنّه أراد أن يجني الأرباح تماشياً مع ما تفعله المنظمات المسلحة عادة، بل «حوّله» إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكي تتفاوض عليه مع العالم. وأندرسون لم يكن الأجنبي الوحيد الذي تمّ اختطافه على يد «حزب الله» في بيروت بين عام 1982، تاريخ تأسيسه، وعام 1991، تاريخ إنتهاء الحرب اللبنانية، بل كان هناك 104 أجنبي غيره وقعوا في مصيدة الحزب حسب جريدة «نيويورك تايمز»، ومعظمهم من حملة الجنسية الفرنسية، الأميركية والروسية، ويعملون في مجال الصحافة والتعليم أو تقديم المساعدات الإنسانية والتبشير الديني، فيما كان أشهرهم رئيس الجامعة الأميركية في بيروت «دافيد دودج».
تعفّف «حزب الله» عن استغلال الرهائن لديه، لم يكن بسبب بُعد قيمي رفيع يملكه، إنّما لأنّه كان يعمل بالنيابة عن إيران. لقد جعل من المخطوفين وسائل للتفاوض بين إيران ودول العالم، وهذا ما يذكره الباحث الأكاديمي المرموق المتخصّص في «حزب الله» وإيران وضّاح شرارة في كتابيه المرجعيين «دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلامياً»، و «طوق العمامة: الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف».
فعندما كانت إيران تريد شراء بعض الأسلحة من فرنسا، تفاوضت مع باريس على إطلاق الرهائن الفرنسيين، وعندما أرادت من موسكو موقفاً في مجلس الأمن الدولي، وعدتها بإطلاق سراح بعض الرهائن من حملة الجنسية الروسية. على المنوال نفسه، عندما أرادت من «الشيطان الأكبر» أميركا أن يخفف ضغطه وعقوباته على النظام الإيراني، أطلقت له بعض الرهائن الأميركيين الماكثين في جعبة الحزب، وهكذا دواليك.
هذا التعفّف والصورة القيمية التي يقدم فيها «حزب الله» نفسه لجمهوره ربما تسري على بيئته أو على من لا يقرأ الكتب. التعفّف الماكر هذا، على جميع الأحوال، سبقه واحد آخر أكثر فداحة، عندما يقول «حزب الله»، أمينه العام أو نوابه أنّهم، كحزب، لم يشاركوا يوماً في الحرب الأهلية اللبنانية.
من يضطلع على الكتب، أو حتى الجرائد القديمة يعرف أنّ هذا الأمر غير صحيح البتة. شارك الحزب في قتال من هم ضدّ إسرائيل أكثر مما قاتل إسرائيل في المرحلة الثانية من تأسيسه، الممتدة من 1985 و 1991. فإن كانت المرحلة الأولى تضمنت قيام «حزب الله» بعمليات ضدّ الوجود الأميركي والفرنسي في لبنان، قد يظن المرء اليوم أنّ المرحلة الثانية تقاتل فيها «حزب الله» مع «الكتائب» أو «القوات اللبنانية» مثلاً. إلا أنّ الواقع يجافي هذا الأمر، حيث تقاتل الحزب، بشكل أساسي، مع حركة «أمل»، الحزب «الشيوعي اللبناني»، والحزب «السوري القومي الاجتماعي».
كان للشيوعي الفرصة الأولى ليعرف مدى رغبة الحزب في الإستئثار بورقة المقاومة في الجنوب. قتل الحزب، كما تذكر مجمل الكتب، العديد من الشيوعيين عام 1985 والعام الذي تلاه، كما اغتال كوادره في بيروت. من ثم أتى دور الحزب «السوري القومي الاجتماعي»، حيث أشبعه الحزب دكاً وقذائف، وبخاصة في قرى صيدا والبقاع الغربي. ثم تفضّى لأخيه؛ حركة «أمل»، حيث طالت الحرب بينهما لأقل من ثلاث سنوات بقليل، تخلّلها وقفات لإطلاق النار، كما الكثير من القتلى والضحايا ناهزت الآلاف.
الأبعاد القيمية التي يُقدم «حزب الله» نفسه من خلالها وبيع الوهم الإعلاني هذا، قد تنفع على بعض الناس، إلا أنّ لبنان، وحياته السياسية والعامة، تدلنا على حقيقة واحدة بدائية، وهي أنّ لا أنصاف آلهة هنا. الكل شارك في الحرب الأهلية وويلاتها «على طريق بيروت» لا «على طريق القدس» فقط، كما أنّ الكل شارك بالفساد على قدر ما سمحت له قوته بذلك، فلا داعٍ لادعاء القيم الرفيعة من أحد، فحارتنا صغيرة وكلنا نعرف بعضنا البعض جيداً.