لبنان اللادولة

لبنان اللادولة

  • ٢٩ تموز ٢٠٢٤
  • أنطوان الخوري طوق

في عزّ الحرب الأهلية اجتمع المجلس النيابي على خطوط التماس وفي مناطق بعيداً عن العاصمة والحرب الدائرة فيها وانتخب رؤساء للجمهورية ولم تشهد البلاد مثل هذا التغييب المقصود لرئيس الجمهورية

لم يخطر بالبال يوماً رجوع اللبنانيين خمسين سنة إلى الوراء وبالتحديد إلى سنة 1975 والعودة من جديد إلى المطالبة وبإلحاح ببناء الدولة وبحضور الدولة وعدم تغييبها من قبل المسؤولين عن هذا الحضور في مفارقة عجيبة هي أنّ الناس يطالبون بالدولة والمسؤولون مصرون على تغييبها.

بعد خمسين سنة تعلو الأصوات مطالبة بالإحتكام إلى القوانين وإلى المؤسسات الدستورية وبنزع سلاح الميليشيات وإقفال الحدود والمعابر أمام الجماعات المسلحة وبعدم إستباحة الأرض اللبنانية من قبل عابري السبيل من سياسيين ومسلحين ممن يحاولون توجيه رسائل سياسية ودموية إلى أيّ جهة في العالم وذلك بعد إنقضاء خمسين سنة على الحرب الأهلية في لبنان. وكأنّ شبح الإقتتال والإنفصال والإحتكام إلى السلاح ومنطق الإستفراد والإستقواء ما تزال كلّها تظلّل الحياة في لبنان مع فارق وحيد وهو أنّ لبنان لم يشهد مرّة في تاريخه مثل هذا الإنهيار المالي والإقتصادي والأخلاقي كما نشهد اليوم.

خمسون عاماً مضت على سيطرة أمراء الحرب على مقاليد السلطة في لبنان فعاثوا في الأرض اللبنانية فساداً ونهباً وتوزيع مغانم وحصّص وربطوا من جديد حياة اللبنانيين بمحاور غريبة عن تاريخهم وثقافتهم وبكلّ الأزمات الإقليمية والدوليّة. بعد خمسين سنة ما يزال اللبنانيون ينتظرون كلّ إستحقاقات العالم السياسية، ما زالوا ينتظرون نتائج الإنتخابات في أميركا وفرنسا وإيران وإسرائيل ليتبينوا مسار شؤونهم وشؤون بلادهم .

يجمع معظم المحلّلين على دقّة التوازنات اللبنانية وبات اللبنانيون يستشعرون المخاطر التي تهدّد رغبتهم وإيمانهم بالعيش معاً وبالشراكة العادلة بين المكونات اللبنانية، فأخذت تعلو أصوات وتتكاثر يوماً بعد يوم مطالبة بالإنفصال نتيجة العجز عن تعديل موازين القوى وإستفراد حزب الله بكلّ القرارات السياسية والأمنية والقضائية وبقرار الحرب والسلم، ونتيجة تجاهله ولا مبالاته بكل الأصوات المعترضة على ربطه أمن اللبنانيين وهناءة عيشهم بالسياسة الإيرانية وبحرب غزّة، وهكذا وبعد عقود من الزمن عادت الهجرة الشبابية الجماعية والتهجير من أرض الجنوب وكأنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن هذه المرّة بصورة أشدّ قساوة ووقاحة.

ففي عزّ الحرب الأهلية اجتمع المجلس النيابي على خطوط التماس وفي مناطق بعيداً عن العاصمة والحرب الدائرة فيها وانتخب رؤساء للجمهورية ولم تشهد البلاد مثل هذا التغييب المقصود لرئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور وانتظام عمل المؤسسات والإدارات وعلى التفاوض وتوقيع الإتفاقات بإسم لبنان والفارق اليوم هو أنّ الرئيس نبيه برّي الظلّ السياسي الودود والناعم لحزب الله بات متلذذاً بدوره في غياب رئيس الجمهورية وفي ظلّ حكومة بتراء تحكمها سياسات غريبة عجيبة كما أنّ الرئيس برّي الذي هو في نفس الوقت رئيس حركة أمل بات يعتقد أنّ المجلس النيابي هو ملك خاص به يقفل أبوابه ويفتحها ساعة يشاء، وكأنّه صاحب الدار واللبنانيون يقفون منتظرين على باب مضافته، كما بات يفاوض الموفدين الأجانب من أميركيين وفرنسيين وإسرائيليين ويعقد الإتفاقات بإسم لبنان وهذا أمر منافٍ للدستور، إذ يضع الشروط لفتح أبواب المجلس، فيبدو على غير عجلة من أمره في ظلّ تفتّت واهتراء مؤسسات الدولة فهو يعطي أوامر التسهيل والعرقلة خارج المؤسسات الدستورية.

ولأنّنا نعيش في ظلّ اللادولة فنحن نريد الدولة ونريد الجيش مهما كانت اعتراضاتنا على على تركيبة السلطة في هذه الدولة، نريد العيش بأمان وكرامة وبحبوحة ونفضّل الدنيا على الآخرة ونرفض أن يموت أبناؤنا على طريق القدس أو غزّة أو أي طريق أخرى في الداخل والخارج، ونرفض إنتظار الموت والخراب وحصيلة المشاغلة خدمة لسياسات لا ناقة لنا فيها ولا جمل، كما نريد أن يكبر أولادنا أمام أعيننا لا في المنافي البعيدة. ولأنّنا نريد الدولة في وجه كلّ المستفيدين من تغييبها، نريد أن نعيش معاً، ولا يستقيم العيش معاً ولا من دون معاً في ظلّ السلاح وفرض السياسات وتغيير وجه لبنان.