اجترار الماضي.. الفِكر في زمن «لبنان الكبير»
اجترار الماضي.. الفِكر في زمن «لبنان الكبير»
إنّ الكيان سيبقى نفسه دون تغيير قريب، طالما أنّ القوى الداخلية والسياسية الحيّة لا تقدّم جديداً جديّاً، ولا تزال تمثل إمتداداً لفكر قديم عمره قرن ونيف من الزمن.
إنّ الكيان سيبقى نفسه دون تغيير قريب، طالما أنّ القوى الداخلية والسياسية الحيّة لا تقدّم جديداً جديّاً، ولا تزال تمثل إمتداداً لفكر قديم عمره قرن ونيف من الزمن.
مع مرور 104 سنوات على نشأة الكيان اللبناني بحدوده القائمة، يبدو هذا الوطن الصغير مفتتاً وهشاً، وفي مرحلة البحث عن صيَغ جديدة للحكم والتركيبة وحتى الحدود الوطنية، إلا أنّ أياً من المشاريع المطروحة لم تثمر جديداً، وهي لن تثمر، على الأرجح، أي جديد في السنوات القادمة.
يَفرض الإنصاف حُكماً، الاعتراف بأنّ كيان «لبنان الكبير» عاش وبقي على الرغم من عشرات الحروب والأزمات والمصائب التي مرّ بها. والملفت، أنّ التيارات السياسية التي كانت قائمة في زمن تأسيس الكيان والاستقلال من بعده، لا تزال هي نفسها، ما يعني، استطراداً، أنّ الكيان سيبقى نفسه دون تغيير قريب، طالما أنّ القوى الداخلية والسياسية الحيّة لا تقدم جديداً جدياً، ولا تزال تمثل امتداداً لفكر قديم عمره قرن ونيف من الزمن.
يمثل التيار الأول ما يُعرف اصطلاحاً بأنصار «القومية اللبنانية». وهؤلاء، إن كان يمثلهم أفراد مثل المؤرخ والمفكر يوسف السودا في زمن نشأة «لبنان الكبير» والشاعر سعيد عقل لاحقاً، كما حزب «الكتائب اللبنانية» في زمن الاستقلال وما بعده، لا يزال أنصارهم هم أنفسهم اليوم، يجترون نفس الفكر وإن بتعابير «حديثة». يؤكد هؤلاء على هوية لبنان القائمة بذاتها، وعلى جبله الملجأ، وعلى عمقه التاريخي الممتد إلى آلاف السنين، وعلى جذره الفينيقي، وعلى حدوده الترابية الأزلية، ولهم أبطال تاريخيون كالأمير فخر الدين والأمير بشير الشهابي. قد يكون أنصار «القومية اللبنانية» قلة متراجعى حالياً، إلا أنّ وجود هذا الفكر بين الجمهور اللبناني لا يزال حاضراً بقوة، وخاصة في المجتمعات المسيحية الجبلية بشكل خاص.
تيار آخر يعادي الأول، ويمكن تسميته بتيار «القومية العربية». هؤلاء، وإن كان يمثلهم أرباب الطائفة السنية في زمن «لبنان الكبير»، ومن ثم حزب «البعث» بفرعه اللبناني والأحزاب الناصرية المتمركزة في التجمعات السنية المُدنية، يقابلهم مد وجزر مع أحزاب من طوائف أخرى، تتلاقى معهم حيناً لتعود و«تشرد» في أحيان أخرى، مثل «تيار المردة» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» اللذان ما أن يوضعا أمام أزمة أو اختبار، حتى يعودا إلى الاحتماء بغطاء «العروبة» والكلام بمشتقاتها اللغوية وسياقاتها الفكرية.
أما التيار الثالث، وقد يكون الأضعف والأتفه، فهو تيار «القومية السورية»، الناشئ في صلب الطائفة الأرثوذكسية في زمن لبنان الكبير، والداعي إلى وحدة مع سوريا، سواء لسبب جغرافي أم ديني. تم تأطير هذا الفكر مع أنطون سعاده، ضمن «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، الذي راح يدعو للوحدة السورية لأنّ «سوريا أمة تامة»، ويبشر بأنّ «العقل هو الشرع الأعلى»، وأنّ «الحرية والواجب والنظام والقوة قواعد أساسية تتناغم بشكل بديع...» في منشوراته. أنصار هذا التيار قلة يتوزعون على الجغرافيا اللبنانية، وخاصة في تجمعاتها الأرثوذكسية. وتماماً مثل أنصار القوميتين السابقتين، لم يستطِع أنصار القومية السورية تقديم أي جديد في الزمن الحالي، بل غالباً ما يتمحور نشاط التيارات الثلاثة على تكرار ما كان سائداً من أفكار في الزمن الماضي.
تيار رابع يمكن وصفه بأنّه يمثل «الإسلام السياسي». في زمن «لبنان الكبير»، كان العلامة رشيد رضا، إبن بلدة القلمون المتوفي في القاهرة، أحد دعاة هذا الفكر، ويدعو إلى إلغاء الحدود وكل تركيبة وكيان جديد، وإلى وحدة إسلامية تضم كل الشعوب التي تدين بهذا الدين. لم يقتصر الأمر على الطائفة السنية، بل تبعه مفكرون إسلاميون شيعة في أربعينيات القرن الماضي، أمثال الشيخ محمد جواد مغنية، وأحزاب لم تعمّر طويلاً أمثال «حزب الطلائع» و«حزب النهضة». عملياً، يمثل «حزب الله» و«الجماعة الإسلامية» إمتداداً لفكر التيار الإسلامي، من دون أن يقدما أي جديد في غايتيّ وجودهما، وهي إقامة حكم الشريعة الإسلامية، ونبذ الحدود الوطنية، على الرغم من تقديمهما آليات متنوّعة وجديدة للوصول إلى هدفيهما.
أما التيار الخامس والأنشط، فيمكن تسميته بـ«الهوية المجتمعية». يؤمن هؤلاء أنّ اللبنانيين ليسوا شعباً واحداً بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك لأنّ الهوية المجتمعية (الطائفية) تتقدم عندهم «جميعاً» على الهوية الوطنية، وبالتالي وجب إقامة نظام حكم يمثل هذه الحقيقة التاريخية القائمة. بعض أنصار ودعاة هذا الفكر كانوا بين الموارنة في زمن لبنان الكبير، أمثال عضو مجلس إدارة المتصرفية سليمان كنعان والنائب شبل دموس وكثر غيرهم، والمؤمنون بأنّ «تكبير لبنان هو تصغير لمارون» حسب هذا الأخير. يمثل فكر المفكر أنطوان نجم شيئاً أكثر وضوحاً في هذا الإطار، تماماً كما يمثله اليوم الفكر العميق لحزب «القوات اللبنانية»، وكثر من أبناء مختلف الطوائف الذين يكتشفون يوماً بعد يوم أنّ القواسم المشتركة بين الطوائف اللبنانية تتضاءل شيئاً فشيئاً.
إنّ واحدة من مشاكل لبنان الحالية، وبخاصة مشكلة من يدعو إلى تغيير نظام الحكم أو صيغته أو حتى حدود كيانه، هي أنّه يفتقد لأي فكرة حديثة قابلة للتطبيق. واحدة من مشكلاتنا الكثيرة في لبنان أنّنا نعيد تكرار ما سمعناه من دون تقديم جديد. تركيبة لبنان الكبير لم تنتهِ، لا لأنّها كثيرة النجاح، إنّما، ببساطة، لأنّ من يُفترض أن يغيرها لا يزال عالقاً في التاريخ وكتبه السميكة، ولم يقدم تصوراً جدياً لبديل يحظى بإجماع عام ويكون قابلاً للحياة والتطبيق. خمولنا الفكري قاتل، وبالتالي بقاء واقعنا كما هو سيظل قائماً وقاتلًا في آن.