القتل المحترم
القتل المحترم
بعد فترة، سيُعلن كل طرف «نصره»، بينما ستُدفن المدن تحت ركامها دون اكتراث لمن اختنقوا تحتها. في النهاية،فيما نجح معظم الساسة والإعلام بإبعاد البشاعة عن القتل وجعلوه محترماً.
في كتابه الأهم «1984»، يقول أحد أبرز روائيي الأدب السياسي في العصر الحديث «جورج أورويل» إنّ الحرب عندما تأتي «لا يتمّ تقديمها كحرب، بل كعمل من أعمال الدفاع عن النفس، بينما تهدف اللغة السياسية إلى جعل الأكاذيب تبدو صادقة والقتل محترماً».
في سوريا ولبنان وفلسطين وكامل أرجاء هذا الشرق التعيس المليء بالحروب، غالباً ما تُقدَّم الحرب والقتل على أنّهما دفاع عن النفس. الحكم السوري، مثلاً، قدَّم كل أعماله بأنّها دفاع عن النفس والنظام والمدنيين. وكذلك فعل معارضوه، عندما قدّموا الحرب على أنّها شكل من أشكال الدفاع عن الذات والهوية والبلاد والحرية. حتى تركيا، عندما تقصف شمال سوريا، تتحدث عن «دفاع عن أمنها القومي»، وكذلك تفعل روسيا في حضورها في سوريا أو في أعمالها في أوكرانيا...
على المنوال نفسه، لا فرق كبير بين الدعاية المرافقة للحرب في سوريا وتلك المرافقة للحرب في لبنان أو فلسطين. الكل «يدافع عن نفسه»، من إسرائيل، التي تواجه موجة قاسية من العداء لها ولأمنها، إلى «حزب الله» و«حركة حماس» اللذين يعلنان الدفاع عن الشعبين اللبناني والفلسطيني. الكل يدافع في الكلام عن القتل والاستعداد للمجزرة، ويستخدم اللغة والدعاية لتبرير الدم، بينما الواقع في مكان آخر، ولا يفيد إلّا بحقيقة واحدة: الكل يهجم ويمارس أشنع أنواع الحرب والدمار والجريمة دون استثناء. الكل يستخدم الأكاذيب كما قال «أورويل» من أجل جعل «القتل محترماً».
في وسط هذا الضجيج الكاذب الذي يمزج بين الحقيقة والوهم، تجد الشعوب نفسها مُقحَمة في مشهد سريالي من الكراهية المتبادلة والظلم الدائم. الشعارات الجوفاء تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، والمذيعون والمحللون يغرقون في خطاباتهم التبريرية المتكررة، يحاولون إقناع المستمعين بأنّ العدوان حق، وأنّ الموت هو الحل، وبأنّ الشعوب مجرد شهداء، لكأنّهم خُلِقوا ليموتوا لا ليعيشوا.
تقول إحدى مذيعات قناة «المنار» التابعة لـ«حزب الله» كل يوم إنّ «المقاومين يسطرون ملاحم البطولة والعزة في الجنوب اللبناني»، ثم تبث مقابلات متفرقة مع بضعة أطفال لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يتوعدون الجيش الإسرائيلي بالقتل، بينما يسكن الأطفال في غرف المدارس الرسمية نازحين غرباء في بلادهم.
الضحايا يتغيّرون كل يوم ويموتون بالتدريج والتتابع، لكن حتمية القتل والدمار تبقى ثابتة. يُقتل أبرز قادة «حزب الله» لكن الحرب تستمر. يُقتل كل يوم حفنة من جنود إسرائيل، لكن اجتياح جنوب لبنان البطيء لا يتوقف. تتبدل وجوه القادة وتختفي أطياف الجيوش في السراديب والملاجئ، بينما الموت والدمار ثابتان، وكل ذلك دون غاية واحدة واضحة تفيد الإنسان. تستمر الشعارات في تكرار نفسها على الشاشات، بينما يتربص الموت بالناس عند كل مفرق أو ناصية طريق.
لا تتوقف الحرب عند الأسلحة فقط، بل تمتد إلى اللغة والكلمات، إلى الإعلام والمنشورات ومنصة X، إلى خطب السياسيين الذين يتنافسون على تجميل القتل وتسويغه في عقول المستمعين. مثلما يشير «أورويل» في كتابه، تتحول الأكاذيب إلى حقائق «رسمية»، ويصبح القتل «واجباً مقدساً»، وتخسر الكلمات معانيها، لتصبح أدوات لتزييف الحقائق وتحريف الواقع و«هرس الإنسان وطموحاته».
أي غرابة وجريمة هي أنّ ينشر كل ليلة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي «أفيخاي أدرعي» خريطة لمكان الإستهداف القادم في معقل «حزب الله» في ضاحية بيروت الجنوبية، وما أن تمر عشر دقائق أو عشرون دقيقة حتى تكون المباني التي أشار إليها قد سُوِّيت بالأرض؟
بينما يمضي العالم في صراعاته، ويزداد الخلاف ضراوة يوماً بعد يوم، تظل الحقيقة بعيدة، محاصرة تحت أكوام من الشعارات والهتافات والكلمات المنمقة. «أورويل» أجاد تصوير هذا الأمر؛ فقد أشار إلى أنّ السلطة والحزب، عبر أدواتها الإعلامية والسياسية، تتلاعب بالحقائق وتحوِّر الوقائع لخدمة مصالحها الضيقة والخاصة، لتبدو الأكاذيب وكأنّها حقيقة ثابتة لا تتزعزع، والجرائم كأنّها أفعال نبيلة تستحق التمجيد. ليس دهس مستوطنين إسرائيليين من فلسطيني كما حصل في 27 أكتوبر/تشرين الأول الحالي أمر نبيل، ولا هو كذلك تفخيخ وتفجير قرى جنوب لبنان، أو تهجير مليون لبناني و100 ألف إسرائيلي من منازلهم. كلها جرائم تُقاد باسم «الدفاع عن النفس»، بينما هي، في الواقع، مجرد جرائم لا أكثر.
قد تبدو هذه الجرائم اللامتناهية مشاهد عابرة لأولئك الذين يشاهدونها من خلف الشاشات أو يقرأون عنها في المواقع الإلكترونية، لكنها في الواقع قصص لأناس حقيقيين فقدوا منازلهم، أحبائهم، وحتى جزءاً من إنسانيتهم. هم الضحايا الدائمون لآلات الحرب المستمرة، والوقود الذي لا ينضب لمطامع أكبر منهم، مطامع لا تعترف بحقهم بالحياة، بل تراهم مجرد أدوات وأرقام، وتحوّل مماتهم إلى مجرد «بروباغندا» لاستمرار الحرب.
أمام هذا المشهد القاتم، تصبح الحرب مستحيلة الإخماد لأنّها لا تشتعل فقط بين الرجال والأسلحة، بل تسكن في العقول والضمائر المسمومة بالكراهية والاستعداد للمذبحة. عبارات مثل «التضحية» و«المجد» و«الشهادة» و«العزة» و«الكرامة» تصبح شعارات تُخدَّر بها الشعوب، لتعيش في وهم أبدية النضال، بينما تفنى أجيال تلو أجيال على مذبح أكاذيب مكررة.
بعد فترة، سيُعلن كل طرف «نصره» ويحتفل بتفوقه في نشر الخراب، بينما ستُدفن المدن تحت ركامها دون اكتراث لمن اختنقوا تحتها. في النهاية، الكل مدافع عن ذاته، الكل قاتل، والكل خاسر، فيما نجح معظم الساسة والإعلام بإبعاد البشاعة عن القتل وجعلوه محترماً.