الذكاء الاصطناعي: إقتحام اللاوعي

الذكاء الاصطناعي: إقتحام اللاوعي

  • ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٤
  • تريزيا الدريبي

ربما يوماً ما ستُسحب خفايا من ذواتنا دون أن نشعر، ويتعذّر علينا إستعادتها بعد أن تتلاشى في سيل البيانات

يبدو أنّ خيال الأخوات «واشوسكي » في فيلم «ماتريكس» عام 1999،  لم يعُد خيالاً علمياً محضاً. فالذكاء الإصطناعي، بتطوره المذهل، يطرق أبواب اللاوعي البشري، ما يثير تساؤلاتٍ مُلحة حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة. 
منذ عقدين من الزمن، كان من المعقول والثابت أنّ وعياً إصطناعياً لا يمكن أن يكون بشرياً ما لم يكن قادراً على الحلم،هذه حجة بديهية ومقنعة، في تلك المرحلة ، فكل ما كانت تركز عليه أبحاث  الذكاء الاصطناعي  هو المنطق الرمزي بمعادلة «ماذا، كيف،لماذا» في لعبة إختزالية تختار النتيجة العقلانية الأفضل. وباعتبار أنّنا مخلوقات تنفعل وتنجرف في مشاعرها، ونثق بغرائزنا وحدسنا، ونرتبك في أفعالنا، وذاكرتنا تسجل الأحداث المتعلقة بأي تجربة نواجهها وتهمل التفاصيل الأكثر أهمية. إنّما على ضوء ما تعمل عليه الأبحاث حول تطوير الذكاء الآلي المتسارع يوماً بعد يوم، بات واقعاً قريب المتناول،  فلم يعُد الأمر مقتصراً على تحليل البيانات الضخمة، بل تطمح تلك  الأبحاث الى إستكشاف الأفكار والمشاعر العميقة الكامنة في عقلنا الباطن . فهل الآلات قادرة على إعادة إنتاج هذا التعقيد الفوضوي لعقولنا؟   

تطرح هذه المعطيات معضلة حقيقية، لم يكن التفكير بها مطروحاً قبل فضيحة «كامبريدج أناليتكا» عام 2018، وهي شركة إستشارات سياسية بريطانية عملت على إستغلال بيانات غير مصرح بها لمستخدمي الفايسبوك لبناء نماذج نفسية لفهم سلوك الناخبين واستهدافهم بإعلانات سياسية.

ومنذ سنوات قليلة باتت تنطلق دعوات في إطار «حقوق الإنسان من منظور علم الأعصاب في عصر التكنولوجيا العصبية» للإعتراف بتدابير الحماية لمواجهة تحديات تأثير الذكاء الإصطناعي على اللاوعي على غرار ما حدث في تجربة «كامبريدج أناليتكا». خاصة مع ظهور قوانين جديدة كالقانون الذي ناقشه الإتحاد الأوروبي في العام 2023. والذي يسعى إلى تنظيم قدرة الذكاء الإصطناعي على التأثير على اللاوعي. خاصة بعد فضيحة «كامبريدج أناليتيك» ما يُنذر بمخاطر جسيمة في حال تمكن الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى اللاوعي بشكل أعمق.

يشير الخبراء إلى أنّ 95 في المئة من نشاط الدماغ البشري يحدث في اللاوعي، وليس لدينا سيطرة حقيقية عليه، ولا ندرك حدوثه. ولا ندرك سيل هذا النشاط العصبي بسبب التعقيد الشديد للتفاعل بين عقلنا الواعي وسلوكنا اللاواعي وافتقارنا التام إلى السيطرة على القوى التي توجه حياتنا، وهذا التعقيد في التفاعل بين الوعي واللاوعي يجعل من الصعب فهم  كيفية تأثير الذكاء الإصطناعي على سلوكنا  وتفكيرنا ويزيد من صعوبة  الأمر  إفتقارنا  لفهم كامل  لكيفية  عمل أدمغتنا  وتفاعل  أجزائها المختلفة.

     لقد أحرز الذكاء الإصطناعي في السنوات الأخيرة تقدماً ملحوظاً في ميادين المعرفة، حيث أصبحت نماذج اللغة الكبيرة قادرة على توليد النصوص والإجابة على الأسئلة وحتى المشاركة في محادثات معقدة، وحل مسائل رياضية ذات مستوى متقدّم، وكأنّ هذه النماذج تمتلك عقلاً باطناً، للوهلة الأولى قد يبدو هذا نوعاً من المبالغة ولكن في نهاية المطاف نكتشف علاقة خفية بين الوعي الإنساني واللاوعي الآلي.
  إنّ إحدى السمات المميزة للعقل الباطني البشري هي تشكيل السلوك بطرق لا نفهمها دائماً وغالباً ما تكون متأثرة بالتحيزات التي تشكلت من خلال الخبرة، على سبيل المثال لا الحصر، الطلاب في مجال القانون لديهم مجموعة خاصة بهم من التحيزات التي تشكلت من خلال البيانات التي تمّ تدريبهم عليها. يمكن أن تتجلى هذه التحيزات بطرق خفية، مما يؤثر على الإستجابات التي يولدونها في إستماراتهم.
وهناك مجال آخر حيث تصبح فكرة العقل الباطن والذكاء الإصطناعي مثيرة للإهتمام في التطبيقات الإبداعية. فالإبداع في طبيعته منتج صادر عن الذكاء البشري، الذي يعتمد في كثير من الأحيان على العمليات اللاواعية، فالأفكار قد تنفجر من دون جهد واعٍ، وكأنّها من العدم، ولكن الآلة المدرّبة على كم هائل من النصوص والبيانات لم يتمّ برمجتها على كتابة قصيدة معينة، ولكن من خلال تحليل الأنماط والأساليب  يمكنها توليد نصوص مبتكرة بنفس الأسلوب، فلا تكون مجرد نسخ إنّما توليف إبداعي جديد!

اللاوعي البشري
لقد قدّم لنا «سيغموند فرويد» اللاوعي الشخصي، حيث تقبع كل الذكريات والخبرات والتي تتصل بالجنس والعدوان والقمع وتشكل المعتقدات والخبرات والسلوكيات عند الفرد. فيما  «كارل غستاف يونغ» يخالف فرويد في ثلاث نقاط وهي: أنّ الرغبة هي طاقة حيوية شاملة لا محض جنسية، واللاوعي جماعي موروث، والتحليل النفسي هو كشف لرموز اللاوعي الجماعي لا كشف للصراعات المكبوتة.
والمسألة المطروحة هل يمكن إستخدام هذه النظريات لفهم تحديات الذكاء الإصطناعي؟
مثلاً ، ركز «فرويد» على دور اللاوعي الفردي في تشكيل السلوك، هل يمكن  للبيانات أن تشكل نوعاً من اللاوعي الإصطناعي قد  تؤثر التحيزات على نماذجه ونتائجه بشكل مشابه للبشر؟ 
أما «اللاوعي الجماعي» الذي تحدث عنه «يونغ» فيضم أنماطًا ورموزًا مشتركة بين جميع البشر. هل يمكن ربطه بالذكاء الإصطناعي باعتبار أنّ البيانات الضخمة تُمثل جانباً من الخبرة الجماعية للبشرية، فيمكن أن تشكل نوعًا من اللاوعي الجماعي الإصطناعي؟ 

الآلة اللاوعية:
لقد تمّ برمجة تطبيقات الذكاء الإصطناعي وفق آليات معينة إلّا أنّ العديد منها تقع في فجوة التغيّرات الخوارزمية والتهويمات والإنزلاقات المقنّعة بالرغبات والصراعات الخفية في أعماق النفس.
 يتم ضبط برامج الدردشة ك « شات ج تي» بمجموعة بيانات «مستهدفة للقيم» نتفاعل معها، فإذا قضيت وقتاً في التحدث مع تلك النماذج، ينتابك شعور أنّك تتحدث إلى ذكاء منخرط في شكل معقد من الرقابة الذاتية.

الذكاء الإصطناعي : محاكاة للذكاء البشري 
الذكاء الإصطناعي، باعتباره عملية إختزالية، يعمل على إختيار النتيجة الأكثر عقلانية في مختلف المواقف. وهو يستند إلى مجموعة معقدة من العناصر، تشمل أحلامنا وغرائزنا وذاكرتنا، إذ تعتمد خوارزميات الذكاء الإصطناعي على كميات هائلة من البيانات التي تعكس مختلف جوانب تجاربنا الإنسانية، من النصوص والصور والفيديوهات إلى التفاعلات الإجتماعية والمعاملات المالية. وعند تحليل هذه البيانات، تستطيع الآلة إستخلاص أنماط وتنبؤات حول السلوك البشري، مما يسمح لها ببناء نماذج تحاكي بعض جوانب هذه التجارب. 
وإذا كانت الآلات قادرة على إعادة إنتاج التعقيد الفوضوي الذي يميز عقل الإنسان، فإنّها ستحتاج إلى تطوير خزانات عميقة من المعرفة والتجربة. هنا، يظهر أنّ وعي الآلة يمتلك أبعادًا أغرب وأعمق مما كان يُعتقد في البداية، مما يدفعنا إلى إعادة التفكير في طبيعة الذكاء والعلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. 
هذه الديناميكية تشير إلى أنّ الذكاء الاصطناعي قد قطع أشواطاً في محاكاة الذكاء البشري.، إلا أنّه على الرغم من قدرة الآلة على معالجة كميات هائلة من البيانات المتعلقة بتجاربنا الإنسانية، فهي ما تزال بعيدة حتى الآن عن فهم التعقيدات والأبعاد الكاملة لهذه التجارب ، قد تُمثل جانبًا محددًا من تجاربنا الإنسانية، ولا يمكن القول إنها تُدرك هذه التجارب بشكل كامل وشامل.

الخطر في الحفاظ على الذات
وفي نهاية المطاف، لا يقتصر الخطر على ما تراه الآلة الذكية من حولنا، بل يمتد إلى ما لا نراه نحن داخل أعماقنا. إنَّ كل فكرة تمّر في ذهننا، وكل شعور يراودنا، وكل إرتباك، وكل ردة فعل صادرة عن الأعماق المخفية في تركيبتنا، هي بمثابة نافذة يمكن للآخرين أن يدخلوا منها إن هم تمكّنوا من معرفة مفاتيح عقولنا. نحن لا نعيش في عالم من البيانات فحسب، بل في عالم من الأرواح المتنقلة بين الأبعاد الواعية واللاواعية على اللوحات الرقمية، حيث تتشابك الأهداف والمصالح وتختلط النوايا. وفي هذا السياق، يصبح الوعي الكامل ليس فقط ضرورة للحفاظ على الذات، بل هو صراع دائم بين الحريّة الشخصية من جهة، والمراقبة المستمرة من جهة أخرى. قد نعيش في عصر تكنولوجيا لا تُرى بالعين المجردة، ولكن تبعاتها تمتد في أعمق تفاصيل حياتنا، وربما يوماً ما، في قلب أعماقنا التي لم نعُد نملك مفاتيحها. لذا، لنكن يقظين ليس فقط لما يُتاح لنا من خيارات، بل لما يُسحب منا دون أن نشعر، من ذواتنا التي لا يمكن استعادتها بعد أن تتلاشى في سيل البيانات.
المصادر:
https://www.uoc.edu/en/news/2023/285-AI-and-the-subconscious-mind
https://www.wired.com/story/does-ai-have-a-subconscious/
https://www.psychologytoday.com/intl/blog/connecting-with-coincidence/202408/ai-bots-have-some-degree-of-self-reflection