من سمع وئام وهاب بالأمس، ظن أنّ فارس سعيد، أنطوان زهرا، أو رياض طوق قد تقمصوا لسانه. بدا رئيس «تيار التوحيد العربي» مسؤولاً عتيقاً في قوى 14 آذار، أو ناشطاً مدنياً يبحث عن خير الشعوب وصلاحها. حتى هو، تناسى مواقفه السابقة المروّجة بحدة لنظام آل الأسد في سوريا.
التوبة التي أبداها، ومهاجمته نظام بشار الأسد الذي روّج له لسنوات، لن تشفع له في عيون الناس. بدت التوبة أقرب إلى ممارسة التقيّة، والتأقلم مع الواقع الجديد الذي فُرض في سوريا. هي محاولة للالتحاق بركب الأحداث وإيجاد موطئ قدم في الشرق الجديد.
ماذا سيفعل وهاب وأصدقاؤه الآن، من هؤلاء الإعلاميين الذين نذروا حياتهم للترويج لنظام «البعث» في سوريا، ولمحور الممانعة وكل هذا الهراء الذي انتهى «فوفاشاً» بأسابيع معدودة؟ أي سردية سيقدمونها في المستقبل القريب، بعدما هُزم مشروعهم؟ وأي مُشغّل جديد سوف يتبناهم ليستمروا في مبادلة مواقفهم ببعض الحظوة والمكانة وربما بعض الليرات، والدنانير، والدراهم؟
أي أحمق سيثق مجدداً بناصر قنديل مثلاً، الذي راح الأسبوع الماضي ينعي نظام الأسد الذي دافع عنه منذ أن برز قنديل بذاته؟ وأي لبناني سيتحمس بعد اليوم للانتساب إلى حزب «البعث العربي الاشتراكي» ويأخذ من علي حجازي المكسور قائداً له؟
بعض «انتلجنسيا» الممانعة، تعيش في حالة من ثلاث. الأولى، تقبلت الواقع وراحت تبحث عن دور جديد لها، فقفزت من سفينة الممانعة التي غرقت، وأظهرت توبة ما. الثانية، اختفت من «السوق» الإعلامي وتخفّت في بيوتها ومنتجعاتها أو وراء الشاشات المحمولة. أي عاقل سيصدق الآن ما ستقوله جريدة «الأخبار» مثلاً، ومن بعد سيأخذها على محمل الجد؟ انتهى زمن التهديد والوعيد، فكلنا تحسسنا رقابنا ووجدناها بخير. وحدها رقبة الممانعة انفكت!
أما الثالثة، فهي لهؤلاء المصدومين بكل ما جرى. ربما هؤلاء صادقون مع أنفسهم، وكانوا مؤمنين جدياً بأنّ سوريا قوية وبأن العروبة القومية شيء حقيقي ذو معنى، وأن محور الممانعة سينتصر حقاً على إسرائيل. هؤلاء خاب ظنهم، وربما يعيشون حالة الصدمة بعد حدوثها. التخفي خيارهم الأمثل الآن، أو حتى البكاء والعويل على فقيدهم الغالي. فأي منطق سيردع سورياً أو لبنانياً خسر عائلته في سجن أو في قذيفة سورية من صفع أحد الممانعين إن رآه في شارع أو مقهى؟
المصيبة الكبرى عند «انتلجنسيا» الممانعة ليست هزيمة «حزب الله» في لبنان فقط، بل هزيمتها في سوريا أيضاً. انتهى أمر الحزب منسحباً مهرولاً من حمص ودمشق والقصير بعدما فقد آلاف الشباب هناك. المصيبة الأكبر عندهم أنّ بناء قوة «حزب الله"» من جديد أمر غير ممكن، بعدما خسر قياداته في لبنان وسوريا، ومخازنه الصاروخية، والأهم، طريق الإمداد وإعادة البناء بين سوريا ولبنان.
قد يكون من الضروري أن يغير «حزب الله» من عقيدته، أو ربما إسم الحزب ذاته. فليترك تجربة منظمة «حزب الله» للتاريخ، ببطولاتها وهزائمها، بصولاتها وجولاتها، بإيجابياتها وسلبياتها، وليخلق حزباً جديداً بهوية جديدة وفكر جديد. لما لا؟ الأحزاب يُفترض أن تكون أدوات للنضال السياسي وليست أهدافاً بذاتها. أما «انتلجنسيا» الممانعة، فليتجمعوا وينشئوا نادياً لهم، يتناقشون فيه كالعجائز في شؤون الأمة وشؤون السياسة وأحاديث الماضي وأمجاده التي انتهت. فليُعطَ وئام وهاب رئاسة هذا النادي الجديد، فعلى الأقل هو أكثر ظرافة ومرحاً إن قورن بآخرين أمثال سالم زهران، فيرا يمين، أسعد حردان، وبقية الشلة الممانعة.
يُحكى في التاريخ الشيعي عن جماعة لُقّبوا بـ«التوابين»، وهم الذين عادوا الإمام الحسين وصحبه، ثم تابوا بعدما حلت بهم المجزرة في كربلاء. فقاموا، كردة فعل، بمناصرة من قُتل وظُلم، وحملوا السيف والكلمة دفاعاً عنهم. ربما على «انتلجنسيا» الممانعة أن تكون فعلاً من التوابين، فتعترف أولاً بخطئها، وتقرّ بأنّ الشعبين السوري واللبناني هما المظلومان على أيدي النظام السوري القديم، وتحمل الكلمة والقلم لإعادة الاعتبار لمن دفع حياته ظلماً في سجون صيدنايا والمزة، أو قُتل في مجزرة حماة عام 1982 أو في الأشرفية عام 1978.
ننتظر من الممانعين التوبة، عسى أن تكون توبة حقيقية وصادقة، والالتحاق بمصالح الشعوب لا بمصالح ديكتاتور صغير جديد آخر قد يظهر على الساحة. إنّ الشعب السوري، اللبناني، والفلسطيني ينتظر إعتذاراً علنياً من «انتلجنسيا» الممانعة، وتوبة حقيقية، وبعض مراجعة الذات وطلب الغفران.. وإلا فليلتحقوا بسيدهم في موسكو بعيداً عنا.