«الشــيطان الأكبر» على حدود لـبـنـان وفلســطين جنوباً
«الشــيطان الأكبر» على حدود لـبـنـان وفلســطين جنوباً
ألم يقتنع الحزب حتى الآن أنّ لبنان الضارب عميقاً في التاريخ والمتعدّد والمتنوّع لا يستطيع أي حزب مهما علا شأنه أن يلبسه لباسه الخاص ويعتدي على تاريخه وثقافته؟
تشير المعلومات المتقاطعة إلى أنّ حزب الله وضمن دوائره الضيقة يقوم بمراجعة عسكريّة وأمنية منذ اتخذ قراره بفتح جبهة جنوبي لبنان إسناداً لغزة إثر عملية طوفان الأقصى.
وتتحدّث التقارير عن تحقيقات سريّة تتناول الإختراقات الإسرائيلية للحلقة الضيقة للسيد حسن نصر الله وللحزب بوجه عام والتي أدّت إلى إنكشاف الحزب أمام إسرائيل وصولاً إلى اغتيال السيد حسن نصر الله وقادة الصف الأول في الحزب، إضافة إلى تفجير أجهزة الإتصال التي طالت الآلاف من مقاتلي الحزب ومناصريه في ظلّ الحديث عن شراء هذه الأجهزة من الموساد الإسرائيلي عبر شركات وهمية مما جعل الحزب يظهر بصورة الضعيف العاجز عن ضبط ساحته إستخبارياً وعن ردّ الضربات الإسرائيلية التي دمّرت البشر والحجر في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي الجنوب والبقاع.
ربما يحقّ للحزب إعادة تقويم مغامراته العسكريّة علماً أنّ نظرية الردع وتوازن الرعب بين الحزب وإسرائيل قد سقطت وفقاً للخبراء العسكريين إلى غير رجعة آخذة في طريقها مجلدات من الخطب الناريّة والمفردات والمعادلات الخشبية والوعود ومطولات التهديد والوعيد والإنفلاش خارج الحدود في الدول القريبة والبعيدة.
الحرب التي بدأت قبل عام واشتدت في أيلول المنصرم بيّنت أنّ شجاعة وصلابة المقاتلين في الميدان لم تردع العدو ولم تمنعه من إحراق وتدمير كلّ أسس الحياة على طول الحدود الجنوبية كما لم تؤثر على تفوّق إسرائيل التكنولوجي والجوّي بحيث بات الحزب وحيداً في مواجهة هذا التفوّق النوعي في ظلّ صمت الجبهات العربية والصبر الإستراتيجي لولي الفقيه، وفي ظلّ المساندة الغربية الشاملة واللامحدودة لإسرائيل عبر الدعم المادي والعسكري والمخابراتي لا سيما الأميركي منه وصولاً إلى إتفاقية وقف النار والقرار الأممي 1701 بنسخته الجديدة بكافة مندرجاته، والتي تنصّ على تنفيذ القرارين 1559 و1680 اللذين ينصّان بدورهما على تفكيك بنية حزب الله العسكرية واحتكار الدولة اللبنانية وحدها لقرار الحرب والسلم، وعلى الإنسحاب من حدود فلسطين جنوبي الليطاني ليحلّ «الشيطان الأكبر» الأميركي محلّ الحزب وراعيته إيران مع إطلاق يدّ الأميركي في مراقبة السلاح في طول البلاد وعرضها، لا جنوبي الليطاني وحسب رغم إدعاء الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم بأنّ الحزب قد انتصرفي المواجهة، وبأنّ إسرائيل لم تحقق أهدافها مع أنّها حسب ما سُرّب عن الإتفاق أضحت مطلقة اليد في ملاحقة حزب الله في كلّ الأنحاء اللبنانية بينما العالم بأسره يتفرّج على المذبحة الفلسطينية دون أن يرّف له جفن.
وضمن هذا السياق ثمّة سؤال يطرح نفسه بقوة:
هل مسموح لحزب الله وحده تقويم حرب الإسناد والمشاغلة وممنوع على سائر اللبنانيين شركائه في الوطن التقويم والمساءلة علماً أنّ اللبنانيين جميعهم بمن فيهم خصوم حزب الله قد دفعوا أثماناً باهظة من أرواحهم وسلامهم وأمنهم وأرزاقهم وتماسك عائلاتهم، دون أن يكون لهم أي رأي بالدخول في الحرب ولا في وقف إطلاق النار وسيدفعون فواتير حروب الحزب وارتباطاته الإقليمية لإعمار ما تهدّم ولإرجاع الناس إلى بيوتهم بعد أن تمّ تشريدهم وإذلالهم على أرصفة المدن وفي مراكز الإيواء والبلدان المجاورة.
ألم يحِن الوقت لنزول حزب الله عن الشجرة ويتواضع ويعتذر من اللبنانيين ويراجع حساباته السياسية عبر إطلاق حوار لبناني- لبناني طال انتظاره، أم سيكتفي بمحاورة نفسه كالمعتاد متوجهاً في إطلالات قياداته إلى جمهوره دون سائر اللبنانيين دون أي حساب لأي آخر لا يرى ما يراه.
فهل تهدئة الخواطر ورفع المعنويات وقف على بيئة حزب الله أم تتعداها إلى اللبنانيين عامة ضحايا شعور الحزب بفائض القوة والغلبة في الداخل؟
وفي سياق المراجعة، ألم يحِن وقت السياسة وتلبّنُن الحزب واستبدال اللباس العسكري بلباس سياسي مدني علماً أنّه قد قتل السياسة في لبنان وحولها بواسطة الطبقة السياسية التي احتكر تركيبها طويلاً فوق أعناق اللبنانيين إلى لعبة بليدة ومملة وفارغة من أي مضمون في إقتصارها على شعارات خشبية جوفاء «إلتقى واجتمع واستقبل وصرّح وودّع» بينما شتى القرارات السياسية والوطنية والقضائية والأمنية والإقتصادية هي في الجعبة العسكريّة للحزب وحده.
ألم يحِن الوقت لوضع لهذه الجرصة العالمية على أبواب الإنتخابات الرئاسية، إذ إنّ الحزب بإقفاله أبواب المجلس النيابي أمام انتخاب رئيس للجمهورية، قد شرّع الأبواب أمام شتّى التدخلات ومختلف الوصايات القريبة والبعيدة.
فهو السباق في إستبدال الوصايات من سورية إلى إيرانية وحالياً إلى إسرائيلية وأميركية.
فإلى متى هذا الإستخفاف بحياة اللبنانيين؟ وبمقومات وجودهم؟ وإلى متى ستستمر سياسة التحريم والتحليل ورفع الفيتوات في وجههم؟ ألم يقتنع الحزب حتى الآن أنّ لبنان الضارب عميقاً في التاريخ والمتعدّد والمتنوّع لا يستطيع أي حزب مهما علا شأنه أن يلبسه لباسه الخاص ويعتدي على تاريخه وثقافته؟
وأيضاً وفي سياق المراجعة هل تمت مقارنة أهداف الحرب بنتائجها؟ وهل شعار «نحمي ونبني» قد تحقق على أرض الواقع؟
ومن جهة أخرى كيف يستقيم إرتقاء الشهداء على طريق القدس والدعوة إلى الصلاة في القدس مع دعم الحزب لنظام الأسد المتوحش، وتحالفه مع المسلخ البشري والمقابر الجماعية في سوريا ومصانع الكبتاغون في سوريا ولبنان؟
فهل الأخلاقية التي ينادي بها الحزب في تفضيله الآخرة على الدنيا وأدبياته في تمجيد الموت وترغيب أشرف الناس بالإستشهاد طمعاً بالجنة، فهل تستقيم هذه الأخلاقية بالتحالف مع ثقافة المكبس والمنشرة وغرف الملح والتنكيل بملايين السوريين؟ فماذا ينفع التغنّي بتحرير الأرض مع إستعباد الإنسان، وقمعه وإخضاعه لسطوة السلاح؟
يقول الشيخ نعيم قاسم في إحدى إطلالاته:«المقاومة هي إيمان وإعداد. إيمان بالله تعالى والحريّة والعزّة والدفاع عن الحقّ والعرض والوطن، والإعدادهو إعداد بالسلاح والإمكانات لحماية هذا الإيمان في مواجهة الأعداء.»
بناء على ذلك هل يعتبر الشيخ نعيم قاسم أنّ الخلاف مع منطق المقاومة واستراتيجياتها كفراً وتجديفاً على الذات الإلهية؟ وهل الخلاف مع الحزب يعتبر إفتئاتاً على الحريّة والعزّة والعرض وخيانة للوطن؟
وإذا كان السلاح هو لحماية الإيمان في مواجهة الأعداء فهل هذا يعني أنّ من لا يؤمن بما يؤمن به الشيخ نعيم قاسم ويعمل له، يصبح عدواً وبالتالي يصبح هدر دمه وقتله حلالاً وفعلاً إيمانياً مقدساً؟
وهل هذا يعني أنّ إستمرار الحروب والنزاعات المسلحة إلى ما لا نهاية والإستعداد لها، واقتناء السلاح يصبح مرتبطاً بعقيدة دينية وبالإيمان بالله دون أي تقدير لكلفة الحروب، ودون الإلتفات إلى الأرواح والأيتام والأرامل وجنى الأعمار؟ ألا تعتبر قيادات حزب الله أنّ هناك في لبنان آخرين أرهقتهم الحروب ويؤمنون بالسلام وبالمقاومة اللاعنفية في مواجهة الظلم وإحقاق الحقّ؟ فما تراه سرديات الحزب حروباً مقدّسة تراها غالبية اللبنانيين حروباً عبثية تنفيذاً لأجندات خارجية وإيرانية بالتحديد.
فهل مَن يسأل عن مصلحة لبنان واللبنانين في كلّ هذه السرديات، وألم يتنبه الحزب بقياداته وجمهوره إلى هذه السياسات والأطروحات التي عزلت لبنان عن محيطه العربي وحالت دون وجوده على خريطة العالم بقضائها على صداقات لبنان وعلاقاته الخارجية؟ فإلى متى إستمرار الحزب في الإنكار والقفز فوق الوقائع؟
إنّ اللبنانيين بغالبيتهم يعتبرون الحزب مسؤولاً عن شلل المؤسسات وضحالة الحياة السياسية واستنقاعها، كما هو مسؤول عن الإنهيار المالي والإقتصادي وحماية الفساد والمفسدين. فكم مرّة عطّل إنتخابات الرئاسة وتشكيل الحكومات من أجل موقع لمصلحة المحظيين من حلفائه ومريديه؟
نطرح كلّ هذه الأسئلة الهواجس بكل هدوء وموضوعية بعيداً عن أي شعور بالشماتة والتشفّي ودون أي وهم بالغلبة إثر سقوط النظام الإجرامي في سوريا وتغيّر موازين القوى الإقليمية لأنّ خفة أوهام الغلبة لا تؤسس لبناء حياة مشتركة مستقرّة في لبنان ولطالما اشتكى اللبنانيون من خصوم حزب الله من الإستقواء والمكابرة والإستعلاء وتوظيف فائض القوة والشعور بالغلبة في الداخل اللبناني وبالتالي لا يمكن إعادة بناء لبنان ومؤسساته بالتحديات وإشعار الآخرين أنّهم مغلوبون ومهزومون ومهمشون. فالأوطان لا تبنى إلا بالمواطنة وبالشراكة بين المواطنين على قدم المساواة.
فنحن لسنا من طالبي الثأر والإنتقام ولسنا بصدد المطالبة بالتعويض عن أعمارنا التي ذهبت هدراً، ولا عن هناءة العيش بسلام التي عكّرت صفوها حروب الحزب، فنحن فقط نريد العيش بسلام بطموحاتنا وأحلامنا وأن يكبر أولادنا أمام أعيننا، لا في المهاجر البعيدة نتيجة جمود الحياة العامة في لبنان، ولا نرغب بأن نشيخ وحيدين معزولين، لأنّ هناك من يقرّر عنا، وبإسمنا شنّ حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل. نحن نريد الدولة فقط فلا حلّ إلا بالدولة ضمانة لنا ولجمهور الحزب معاً.
فهي التي تحمي وتبني. فهل تعيد قيادات الحزب بعد هذه الزلازل التي عصفت بلبنان وبالإقليم قراءة ما فعلت بلبنان واللبنانيين، ويقرّر الحزب أن يكون حزباً سياسياً طبيعياً شأن سائر الأحزاب في العالم.
وإذا كان الشيخ نعيم قاسم قد قال بالأمس بأنّه ما من جدول زمني يحدّد عمل المقاومة، فإنّ المطلوب لبنانياً وعربياً ودولياً وضع جدول زمني يحدّد عمل المقاومة، للإنتقال إلى حياة سياسية سوية.
فلنتطلع سوياً إلى وحدة ساحات لبنانية على أنقاض وحدة الساحات الإقليمية التي أثبتت عقمها وفشلها وجلبها التعاسة والويلات لشعوب المنطقة.
وفي لبنان «لا سلطة لأي صيغة تناقض العيش المشترك بين اللبنانيين»، هذا ما نصّ عليه الدستور اللبناني وإتفاق الطائف.