من الأرض إلى المائدة إلى الشعر: رحلة الخبز المدهشة
من الأرض إلى المائدة إلى الشعر: رحلة الخبز المدهشة
الخبز الرمز الصامت للحياة، من بساطة العيش إلى عمق المعتقدات، ومن قسوة الثورات إلى دفء المحبة. الخبز، هو قصة الإنسان المكتوبة بأبسط المكونات، ولكنها الأكثر عمقاً وتأثيراً.
تاريخ الخبز.. من أول حبّة إلى نكهة شعرية!
«هل تكفي الإنسان كِسرةُ خُبزٍ، وقطرة ماء، وكلمة طيّبة من أجل أن يعيش مَلِكًا؟!».. كسرة خبز واحدة هي كافية أن تسند إنساناً ليوم كامل. فليست بصدفة أنّ يكون الخبز رمزاً للحياة، على الرغم من أنّنا نجتمع ونكسر الخبز على المائدة، ولا أحد يفكّر أحد بأنّ لحبة القمح هذه التي صنعت خبزاً حكاية اختلفت من حضارة إلى أخرى.
«اعطِ خبزك للخباز، ولو أكل نصه»(مثل لبناني)، « الخبز أطيب في اليد من الذهب»(مثل رائج في الثقافة العربية). هكذا إنّ الخبز ليس مادة للإستهلاك، بل إلهام للشعر، وشرارة الحروب والثورات أيضاً؟
الخبز: حياة أقوى من موت
القمح. القمح يعني الحصاد، الدورات الطبيعية، والتناوب بين مراحل الموت (حبة القمح التي تسقط في الأرض) والبعث. يمكن تعريف الحياة بأنّها تلك القوة التي تتغذى على الموت لتُبعث دائمًا بشكل أفضل، ما يعطيها أيضاً بُعدًا روحيًا. وقد ذكر في الكتاب المقدّس. «الحق، الحق أقول لكم: إذا لم تمت حبة الحنطة التي تقع في الأرض، تبقى وحدها، ولكن إذا ماتت، تأتي بثمر كثير» يوحنا 12: 24
والقمح والخبز متعلقان بخصوبة الأرض التي تعطي وتغذي وتلبي احتياجات البشرية. وبذلك، فإنّ القمح والخبز هما هبة من الله (كما في "المَنَّة"، الطعام الذي قدَّمه الله لبني إسرائيل خلال عبورهم الصحراء - سفر الخروج 16)؛ هما تجسيدٌ لحب الله.
ويُحكى أنّه كان للخبز المقلوب دلالة إلى الموت أو نذير شؤم؛ ولردّ الحظ، في الثقافة الشعبية كانت جداتنا الناس يرسمن علامة الصليب على العجين قبل خبزه، وهو طقس يوضّح القيمة التقليدية التي كانت تُعطى للخبز.
لمحة تاريخية.. من الخميرة إلى التفنّن
تطور الخبز من عجينة بسيطة مصنوعة من الحبوب البرية إلى خبز مخمر باستخدام الخميرة. تعلّم البشر طحن الحبوب وطهي العجائن، حتى اكتشفوا الخميرة، التي ساهمت بشكل كبير في تطوّر صناعة الخبز. يُضاف إلى ذلك، أفران الطهي المتنوّعة. كان للخبز دور أساسي في تقدم الحضارة البشرية، مما جعله محورياً للأطعمة في العالم.
وبحسب المؤرّخين، إنّ المصريين القدماء هم أول من صنعوا البيرة وأيضًا أول من صنعوا الخبز باستخدام الخميرة المصنوعة منها.
مع العلم، من غير الواضح أيهما جاء أولاً البيرة أم الخبز، حيث من المحتمل أن الخبز باستخدام الخميرة نشأ عن طريق الصدفة، عندما هبطت الخميرة المحمولة في الهواء على العجينة، مما جعلها ترتفع. ولكن من المؤكد تقريبًا أنّ أول خبز خمير كان قد صنع في مصر، وكان إما نتاجًا ثانويًا لصناعة البيرة (حيث كانت بعض رغوة البيرة تُضاف إلى العجينة) أو العكس (كان التخمر المتبقي من الخبز يُضاف إلى الماء لصناعة البيرة)، ما يرجّح أنّ الكلمة الإنجليزية «bread» مرتبطة بكلمة «brew».
بحسب بعض الكتب المتخصّصة، يُعزي مؤرخو الطهي إلى الإغريق عملية تطوير الخبز ليصبح فنًا. وقد تمّ تطوير أفران الخبز في مراحلها الأولى في اليونان القديمة. وأبدع الإغريقيون بتقديم مجموعة متنوعة من معجنات الخبز وأشكال الخبز وأنماطًا من تقديمها عن الأطعمة الأخرى. فتطوّر الخبز كتجارة ومهنة، حيث كان يتم إعداد الخبز على نحو متزايد خارج منزل العائلة وبواسطة عاملين مدربين بشكل خاص لبيعه للشعب العام. ويُعد هذا أحد أقدم أشكال تجهيز الطعام المهني.
الخبز والثورات
على مر التاريخ، كان الخبز أكثر من مجرد غذاء؛ كان رمزاً للحياة والكرامة. وليس من المستغرب أن يكون نقصه سبباً في اندلاع العديد من الثورات. فمن ثورة الخبز في فرنسا إلى الانتفاضات الشعبية في عصور مختلفة، كان الخبز حاضراً كرمز للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحق في الحياة الكريمة.
عام 1917 : اندلعت الثورة الروسية في تشرين الأول، حيث رفعت شعار « الأرض والخبز والسلام»..
عام 1789، هناك سردية عن ماري أنطوانيت، زوجة الملك لويس السادس عشر، حين قالت من على شرفة قصرها وخاطبت الفقراء الذين كانوا يحتجون على غلاء الخبز بالقول: «إذا كان الخبز ليس في متناول أيديكم، فلماذا لا تأكلون الكعك؟ ». وباتت دلالة على إنفصال الحكام عن واقع شعوبهم - وقد كانت كفيلة باندلاع الثورة الفرنسية.
عام 1988 انتفاضة الخبز في الجزائر، حيث رفع المتظاهرون أكياس الدقيق الفارغة…
للخبز نكهته الخاصة في كلّ بلد
وعلى الرغم من تاريخ الخبز الموحّد، إلا أنّه كان يملك نكهة خاصة في كلّ بلد، وحكاية مختلفة.
بدءا من القارة الأميركية، تطوّر الخبز من حبة صغيرة إلى تورتيلا، حيث كانت شعوب المايا في أميركا اللاتينية مجتمعًا زراعيًا أطلق على الذرة إسم «إكسيم»، وكانت تُستخدم لصنع التورتيلا والطعام المكسيكي التقليدي.
في الهند والشرق الأوسط، عرف ال «شباتي» (أو روتي») وهو نوع من الخبز الذي يُستهلك بكثرة في جنوب آسيا. يُعتقد أنّ أصوله تعود إلى مصر أو شرق إفريقيا قبل حوالي 5000 سنة، ولكن الرأي الأكثر شيوعًا هو أنّه نشأ في جنوب الهند.
وإنّ أوروبا كانت أيضاً من طورت طريقة تخمير الخبز باستخدام الخميرة، والتي تم استخدامها لصنع الخبز المخمر باستخدام «الساوردو» (الخميرة الطبيعية).
أما في مصر القديمة لقد عرف الخبز حكاية اخرى، إذ كان يستخدم كعملة قبل أن يعتمدوا على العملات المعدنية. إلى ذلك، استخدم المصريون الخبز والجعة كوسيلة لدفع أجور العمال، وكان يُمنح للفقراء كجزء من غذائهم الأساسي.
وبالعودة إلى القرون القديمة خلال الفترة من 300 إلى 150 قبل الميلاد، ازدهرت صناعة الخبز في الإمبراطورية الرومانية. وفي عام 168 قبل الميلاد، تم تشكيل نقابة للخبازين، وكانت تهدف إلى تنظيم صناعة الخبز.
للخبز.. نكهة شعرية أيضاً
ولا يمكن الحديث عن أهمية الخبز، بدون التطرّق إلى تضميناته في الأبيات الشعرية.
نزار قباني في قصيدته يبدأ بالخبز (خبز وحشيش وقمر)، دالاً في عنوانه على القوت والكيف والرومانسية على ما يبدو، وكذلك الحال بالنسبة للأديب السوري محمد الماغوط الذي استخدم الخبز والرغيف في كتاباته بشكل دائم كإعلان واضح بتفشي الفقر، و الرواية العظيمة للروائي المغربي محمد شكري «الخبز الحافي»، ولا نغفل قصيدة البردوني من «منفى إلى منفى» التي يحلم فيها بكسرة خبز لأبنائه. وقد قال محمود درويش عبارته الشهيرة «أحن إلى خبز أمي…»، فصارت قوتاً أو جوعاً وحنيناً من الذاكرة الى وطن مفقود ومقيد .
الخبز قطعة من تاريخنا وهويتنا الثقافية. وشاهد صامت على مسيرة البشرية من أقدم العصور حتى اليوم الأخير للإنسان، ففي الإرث المسيحي «المسيح هو الخبز السماوي»، ويبقى رابطاً بين الأجيال والشعوب. مع كل رغيف، نستحضر روح الأرض، ونؤكد إستمراريتنا في رحلة الحياة. فبات رمزاً للثورات، وللتلاقي والحب وللإحتفال وللصمود أمام قسوة الحياة.