من المكتبة إلى المعنى: الأب جوزف مكرزل.. الحارس الذي صار رئيساً
من المكتبة إلى المعنى: الأب جوزف مكرزل.. الحارس الذي صار رئيساً
«أكتبوا… لا لكي ننتصر، بل لكي لا يُقال إنّنا لم نكن هنا». هكذا يُحدث الفرد فرقاً. لا يُحدث ضجيجاً، بل أثراً
في بلاد تهرول نحو النسيان، وتفقد كل يوم من حكاياتها قصة، قلّما يخرج من بين الركام صوت يقول: «توقفوا، فللتاريخ حرمة». وفي زمن يضيع فيه كل شيء بين الشعارات، ويضيق المعنى في زحمة الوظائف والمناصب، ينهض راهب مارونيّ من رواق الصمت، ليذكّرنا أنّ الفرد، نعم الفرد، يمكنه أن يصنع فرقاً، أن يوقف التدهور، أن يُعيد الإعتبار للفكرة، وأن يخلق حوله صمتاً مُضيئاً يُنقذ ما بقي من المعنى.
الأب الدكتور جوزف مكرزل، إبن الرهبنة اللبنانية المارونية، لا يُمكن أن يُعرَّف بصفته الجديدة فقط: رئيساً جديداً لجامعة الروح القدس – الكسليك. فالرجل لم يصعد سلّماً وظيفياً، بل مشى درباً طويلاً بدأت منذ قرر أن يكون راهباً للكلمة، لا للصدى. منذ أن اختار المكتبة ساحة نضاله، لا المنبر. لم يحتَج إلى الأضواء، فقد كانت الأوراق المصفّرة تحت يديه أكثر صدقاً من كل عدسات الإعلام.
هو راهب صحيح، لكنه مقاتل. لا بالسلاح، بل بالحبر. لا بالرايات، بل بالأرشيف. رجل آمن أنّ الكنيسة ليست فقط بيت الله، بل بيت الذاكرة. وأنّ الجماعة المسيحية، والموارنة منها خصوصاً، لا تُصان فقط بالمواقف، بل بما يُحفظ من أوراقها، وما يُكتب من سطورها. ولهذا، كانت مكتبة جامعة الكسليك، تحت قيادته لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، أكثر من مكتبة. كانت جبهة.
هناك، في ذلك المبنى الحجري العتيق، صنع الفرق. لا بوضع الكتب على الرفوف، بل برسم خريطة غير مرئية لذاكرة لبنان. حفظ أرشيف بشير الجميّل، الشاب الذي خاطب الحلم فاستشهد. وأرشيف موريس الجميّل، المفكّر الذي كتب كأنّه يدرك أنّ بلاده شارفت على الإنزلاق، وأوراق كميل شمعون والياس سركيس وفؤاد شهاب وحتى يوسف بِك كرم. كما أرشيف سلسلة طويلة من الفنانين والمفكرين أمثال يوسف السودا، كمال الصليبي، بطرس ديب، جبران خليل جبران، الياس أبو شبكة، بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وديع الصافي، وكثر غيرهم. لم تكن هذه الأوراق مجرد حبر تحت الغبار، بل صرخة. ولم يكن حفظها هواية، بل واجب.
وحين ظن البعض أنّ المكتبات هي مجرد صالات للقراءة، حولها مكرزل إلى مختبر للهوية. فجمع أرشيف الرهبانيات، وأوراق الكنائس، ومسودات الإدارات ومن عاشوا في ظل الدولة العثمانية في جبل لبنان. أعاد لزمن القائمقاميتين والمتصرفية ذاكرته، ولرجالاته أسماءهم، قبل أن تُمحى بحبر الانتداب أو بخيانة الأحفاد.
ولم يقف عند الحفظ. بل ذهب أبعد. سأل: من بقي من المفكرين المسيحيين؟ من لم يُسكت بعد؟ من لم يُشترَ أو يُهجَّر؟ ثم جمعهم، شجّعهم على الكتابة، على الشهادة، على كسر الصمت. قال لهم: «أكتبوا… لا لكي ننتصر، بل لكي لا يُقال إنّنا لم نكن هنا». هكذا يُحدث الفرد فرقاً. لا يُحدث ضجيجاً، بل أثراً.
في زمن باتت فيه الجامعات مؤسسات تجارية، تحصي طلابها لا أفكارهم، وتفاخر بمبانيها لا بمدرّسيها، أعاد الأب مكرزل الإعتبار إلى المعنى. يؤمن أنّ الجامعة ليست مبنى، بل رسالة. وأنّ التعليم، حين يفقد عمقه، يفقد قيمته. واليوم، حين اختارته الرهبنة رئيساً للجامعة، لم تنقله من مكان إلى آخر، بل وسّعت مساحته، فالمهمة ذاتها، والمعركة هي هي: معركة الحفاظ على الإنسان، قبل الحفاظ على المؤسسة. على الهوية، قبل الجدران.
جامعة الكسليك ليست جامعة عادية. هي، في عمقها، ضمير روحيّ وفكريّ للبنان. فيها كُتبت الوثائق الأولى للجبهة اللبنانية. فيها اختبأت أوراق الإنقاذ في عزّ الحرب، حين كان الوطن ينزف. فيها لجأ من نجا من مجزرة الدامور. وفيها، درج أصفر حُمِّل ذات يوم أكثر مما يحتمل، لا لأنّه كان مسرحاً لصراع، بل لأنّه ظلّ مفتوحاً على الحلم، حين أُغلقت كل النوافذ. هذا الدرج، في ذاكرة الجماعة، ليس مدخل جامعة فقط، بل بوابة خلاص.
لماذا نكتب عن الأب مكرزل؟ لأنّه من القلائل الذين لم يطلبوا شيئاً من الحياة، بل أعطوها. لأنّه من الذين لم يختاروا الأضواء، بل سكنوا ظلّ المعرفة. من الذين يعرفون أنّ الحبر حين يُحفظ بإيمان، يتحوّل إلى خلاص. وأنّ أوراق الأجداد ليست عبئاً، بل سلاح مقاومة في وجه المحو. وأنّ الراهب لا يُحبس في صومعة، بل يُرسل إلى المعركة حين تحترق السفينة أو تحترق الأوطان.
هو ليس رئيساً في الشكل. هو شاهد في الجوهر. شاهد على زمن يتهاوى، يحاول أن يرفع فيه لواء المعنى. ويذكّر الجميع - نحن، طلاب المعرفة، ومريدي الكنيسة، وأبناء الهوية - أنّ الفرد يمكنه، حين يؤمن ويعمل، أن يُحدث الفرق. أن يُعيد صياغة المعادلات. أن يكتب وينحت الصخر.
نبارك له، وهو الذي لا ينتظر بركة أحد سوى ربّه. نبارك للجامعة، التي اختارت أن تعود إلى قلبها، وإلى عزّها. نبارك للرهبنة، التي أبقت نذورها حيّة في رجال مثل الأب مكرزل. ونبارك للبنان، أنّه بقي مَن يشبهه.
وهكذا تستمر الحكاية: من مكتبة تنبض، إلى جامعة تنمو. ومن راهب يعرف الحرف، إلى رئيس يعرف الطريق. ومن فرد، ظنّه الناس وحيداً، فإذا به يغيّر مصير ذاكرة بأكملها. فليكن الأب مكرزل صوتنا الماضي ورجاءنا القادم. لا بالصوت العالي، بل بالصوت العميق. صوت الأرشيف، والكتب، والعلم والإرادة والمستقبل.. وصوت كل الذين قرروا ألّا يصمتوا، لكي لا يُنسَوا.