«محور» الفكاهة.. والعدس!
«محور» الفكاهة.. والعدس!
يتأرجح المحور بين وهم المحو السريع ووهم القيامة الموعودة. يتخبط في فضاء من «فيكشن» يختلط فيه العدس بالنووي، والرئيس الفنزويلي بـ«أبو عبيدة».
في الأزمنة العادية، حين يثقل الواقع على الناس، يلجأون إلى الفكاهة كوسيلة دفاعية، كآلية لإلتقاط الأنفاس بين وجع وآخر. لكن محور «الممانعة» لم يترك للناس هذه الرفاهية، بل صادر حتى حقّ الضحك التلقائي، وحوّله إلى صناعة سياسية. صار يبيع الوهم في عبوات جاهزة، ويقدّم على الشاشات عروضاً من الخيال المحض، تارة تحت مسمى «المعجزات العسكرية»، وطوراً تحت عنوان «إنتصارات استراتيجية». وهكذا، أصبح المسرح بديلاً عن الجبهة، والتصريحات أكثر حضوراً من الوقائع.
خذوا مثلاً تلك المقولة المكرّرة التي يصرّ عليها بعض الجنرالات الإيرانيين: إسرائيل يمكن أن تُمحى عن الوجود في «سبع دقائق ونصف». لا أحد يعرف سبب التوقيت الدقيق: سبع دقائق فقط، ومع نصف إضافي ربما لضرورة إستراحة قصيرة. قد يكون وقتاً لشرب الشاي، أو لفتح قِدر العدس فوق النار والتأكد من أنّه لم يلتصق بالقاع. بالفعل، الأمر أقرب إلى وصفة مطبخية منه إلى خطة عسكرية، إلى درجة يخال فيها المرء أنّ الجنرال يتحدث عن سرعة إعداد حساء، لا عن حرب معقدة.
والجمهور؟ يصفق بحرارة. ما حاجة القيادة للجماهير أصلاً إن لم تصفق؟! هو يصفق لا لأنّه يصدق تماماً، بل لأنّ هذا النمط من التصريحات صار جزءًا من الطقس الجماعي، مثل نشيد يُعاد ترديده كي يغطي على الحقائق المرّة. فالواقع على الأرض يخالف تماماً الخيال الغزير الذي يملكه «المحور». إسرائيل موجودة، وتحارب في كل مكان، وتنتصر في كل معركة، فيما الخراب في عواصم «الممانعة» يزداد. لكن طالما أنّ العدس يُطبخ في سبع دقائق ونصف، فلا داعٍ للقلق!
وإذا تجاوزنا الجنرالات، نجد محللين يملكون شجاعة أكبر في الخيال والتيه. فيصل عبد الساتر مثلاً، المحلل السياسي صاحب الوجه العابس والسحنة القاسية، وقف ليعلن أنّ المحور لم يُهزم أبداً. بل على العكس، لقد «ربح» رؤساء في كولومبيا والبرازيل وفنزويلا، حسبما قال على إحدى القنوات التلفزيونية منذ أسبوع. وكأنّ استعادة القدس لا تحتاج إلى خطة عسكرية، بل إلى نتائج إنتخابات في أميركا اللاتينية. المشهد يذكر بطفل خسر مباراة كرة قدم في بلده، لكنه عاد إلى أهله ليقول بفخر: «لكن إبن خالتي ربح بطولة الشطرنج في الخليج». ضحك الناس على وسائل التواصل ليس سخرية شخصية من عبد الساتر، بل لأنّهم رأوا أمامهم صورة مكثفة عن أزمة خطاب يحوّل الخسائر إلى إنتصارات وهمية، ويجد في كاراكاس وبرازيليا ما يعوّض عن الخيبات في بيروت وغزة ودمشق.
لكن الطرفة الأشد وقعاً تتعلق بما بعد مقتل حسن نصرالله، الأمين العام السابق لحزب الله. فالفراغ الهائل الذي خلّفه الرجل لم يجِد أتباعه وسيلة لملئه إلا بابتداع أسطورة: سيعود في أواخر أيلول، في الذكرى الأولى لرحيله. وهذا ما تنضح به وسائل التواصل هذه الأيام. هكذا ببساطة، كما يعود البطل في الملاحم أو كما يُبعث المخلِّص في المرويات الدينية. لا يُطرح الموضوع همساً بين العوام فحسب، بل يتسرّب أحياناً إلى ألسنة بعض الكوادر، وكأنّه عقيدة جديدة يُراد لها أن تبث الحياة في جسم مريض.
هذه الفكرة تكشف أكثر مما تُخفي. فهي لا تعبّر عن إيمان بقدر ما تعبّر عن عجز، وعن مأزق عميق لا يُحل إلا باللجوء إلى ما وراء الطبيعة. الإنتظار هنا ليس إنتظار قائد، بل إنتظار معجزة، إنتظار يُعفي أصحابه من مواجهة الواقع: أنّ القائد مات، وأنّ المشروع يتآكل، وأنّ الهزيمة وقعت، حتى وإن لبست ثوب «الإنتصار الإلهي». وما بين الوهم الأول عن محو إسرائيل في سبع دقائق ونصف والوهم الأخير عن القيامة في أواخر أيلول، يدور الناس في حلقة من التيه، لا يجدون منها مخرجاً إلا في الضحك المر.
على مستوى أوسع، صار هذا النمط من الخطاب اللغة الوحيدة المتبقية للمحور. فبعد أن سقطت أوراق الميدان، وذبلت أوراق السياسة، وانهارت أوراق الإقتصاد والتهريب، لم يبقَ إلا الكلام. والكلام لم يعُد أداة إقناع أو تعبئة، بل صار أداة تسلية: نكتة تُقال في المساء ليضحك الناس قبل الخلود إلى الفراش. قديماً كان الخطاب يشحن الجماهير، أما اليوم فهو بالكاد يصلح لمقطع «ميم» يتداوله المراهقون على «تيك توك».
هكذا يتأرجح المحور بين وهم المحو السريع ووهم القيامة الموعودة. يتخبط في فضاء من «فيكشن» يختلط فيه العدس بالنووي، والرئيس الفنزويلي بـ«أبو عبيدة»، ومهرجان «الريو» بنشاطات بلدية برج البراجنة، والأسطورة بالواقع اليومي. وفيما يترقب أنصاره «المعجزة» في أواخر أيلول، يمضي العالم في مساراته الواقعية، حسابات توازنات، تحالفات، إقتصاد، تكنولوجيا، ومصالح لا مكان فيها لا لسبع دقائق ولا لعودة أسطورية ولا لأي شيء خارق للطبيعة.
النتيجة أنّ المحور لم يعُد سوى مسرحية طويلة تُعرض بلا نصّ مكتوب، أبطالها جنرالات يقدّمون وصفات مطبخية على أنّها خطط حربية، ومحللون يكتشفون فجأة أنّ الإنتخابات في أميركا اللاتينية أصبحت الجبهة الجديدة، ومريدون يترقبون قيامة لن تحدث. وفي النهاية، لا يجد المشاهد سوى أن يضحك بسخرية. فحين تتحوّل السياسة إلى نكتة ومادة للفكاهة، يبقى من المحور مجرد خيال يُستعاد على سبيل السخرية، لا على سبيل الحقيقة والتصديق.