هالوين الحزب الشيوعي اللبناني
هالوين الحزب الشيوعي اللبناني
الحزب الذي لم يقترب من السلطة يوماً، لا بالإنقلاب، ولا بالإنتخاب، ولا بخلق سلطة مضادة فعلية تُرعب النظام أو تُربكه، تحوّل مع الزمن إلى جمعية تؤرشف تاريخها.
تأسّس الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924، أي بعد سنوات بسيطة من قيام دولة لبنان الكبير بنسختها السياسية غير المكتملة، وقبل تشكّل معظم الأحزاب التي صنعت وجدان الحرب والسلم في البلد. كان الحزب إبن لحظة عربية وعالمية حملت وعد الثورة وتحرير الطبقات العاملة، لحظة آمنت أنّ الكلمة ليست وصفاً للواقع بل شقاً لمساره. يومها، كان الحزب مشروعاً يطمح إلى اقتحام التاريخ. اليوم، وبعد مرور مئة عام وعام، صار الحزب نفسه أسير تاريخ لا يعرف كيف يخرج منه.
الحزب الذي لم يقترب من السلطة يوماً، لا بالإنقلاب، ولا بالإنتخاب، ولا بخلق سلطة مضادة فعلية تُرعب النظام أو تُربكه، تحوّل مع الزمن إلى جمعية تؤرشف تاريخها. حزب عقائدي يعبُر أربعة أجيال من دون أن يلمس نقطة تأثير حقيقية في بنية الدولة، فيتحوّل إلى عبء على ذاكرة البلد، لا إلى قوة في واقعه. وهذا وحده، يكفي لتبرير حلّه. فالعبرة في الأحزاب ليست في طول عمرها، بل في مقدار ما فعَلته بهذا العمر.
شهد هذا الأسبوع إحتفالات متفرقة لمن تبقى من هذا الحزب في لبنان، إحتفالات لأناس وحزب يعيشون صراعاً مع الزمن، لا مع الإمبريالية، ولا مع الرأسمالية، ولا مع القوى الرجعية، ولا مع اليمين اللبناني. الزمن هو خصمهم الأكبر: الزمن الذي كشف أنّ الحزب لم يعد يملك، من زمن، لا أدوات صراعه ولا جمهوره ولا مفرداته. لم يعد قادراً على توليد أفكار تغيّر الدولة أو المجتمع، بل صار يكتفي بالإحتفال بماضيه. كأنّ كل مهرجان للحزب هو افتتاحية جديدة لـ «ذكرى تأسيس الحزب» لا لـ «مشروع الحزب». كأنّ الحزب هو الآن «لجنة إحياء تراث الحزب الشيوعي اللبناني» وليس حزباِ حقيقياً. ومن هنا يصبح السؤال البديهي: لماذا لا يتقبّل الحزب تتمّة هذه الحبكة حتى النهاية؟
مشهد العجزة وكبار السن في الإحتفالات الشعبية بالقبعات الحمراء والكوفيات، صار أقرب إلى «هالوين» سياسي. لا لأنّ الشكل و الخطاب مضحكان بحدّ ذاتهما، بل لأنّهما مفصولان بالكامل عن الواقع الذي يدّعون تغييره. شعارات قديمة تُرفع في فضاء لم يعد يسمعها أحد. متحف مفتوح في الهواء، لا يزوره أحد إلا بدافع النوستالجيا.
الحزب الذي لم يعد ينتج الصراع، صار يعيش من ذاكرة الصراع. والحزب الذي لم يعد يجد طبقة عاملة تأتمر بخطابه، صار يعيش من فكرة طبقة عاملة إفتراضية، تخيّلية، لا وجود لها بالمعنى الذي وُلد لأجله الحزب.
هذه الأحزاب عندما تستمر بهذا الشكل، تصبح جزءاً من عرقلة المستقبل. ليست عرقلة مقصودة ولا شريرة، بل ثقيلة، مثل كيس قديم محشوّ بتاريخ لا يصلح للإستعمال.
لبنان اليوم لا يحتاج حزباً يضع مئة عام أخرى في رزنامته. بل يحتاج أحزاباً جديدة تولّد التاريخ بدلاً من أن تُمسك بتوابيت الماضي. يحتاج إلى قوى سياسية تعترف بانتهاء أدوارها، في لحظة شجاعة، وتفتح المجال لمن يقدر أن يكتب فصلاً جديداً. وهذا ما يجب أن يفعله الحزب الشيوعي اللبناني اليوم: أن يَفضّ نفسه، لا كإعتراف بالهزيمة، بل كفعل نضالي أخير، كخطوة ثورية هي الأخيرة والأصدق. لأنّ الحزب الذي لم يعد قادراً على صنع زمنه، لن يستطيع أن يصنع الوطن الذي يحلم به.
حلّ الحزب اليوم ليس إنتحاراً سياسياً، بل نجاة للسياسة نفسها من أن تتحوّل إلى متحف. وأرحم للحزب أن يضع نقطة النهاية بيده، قبل أن يتحوّل نهائياً إلى تمثال بلا شعب، ونظرية بلا أرض، وتاريخ لم يعد يقيم في الزمن بل يُعلّق خلفه كمتحف للشمع.

