ما لا تعرفونه عن رئيس محكمة العدل الدولية.. نواف سلام أبعد من سفير وأكثر من قاضٍ

ما لا تعرفونه عن رئيس محكمة العدل الدولية.. نواف سلام أبعد من سفير وأكثر من قاضٍ

  • ٠٧ شباط ٢٠٢٤
  • عبدالله ملاعب

تاريخ نواف سلام يعود إلى ما بعد إتفاق الطائف. انجازات سُطرت بإسمه في السياسة اللبنانية والديبلوماسية العربية والقيادة العالمية، حتى وصل به الأمر إلى محكمة العدل الدولية التي دخلها عام 2018 رغم اعتراض غربي، ويتبوّأ اليوم رئاستها.. إليكم ما لم يُقل لكم عن سلام.

من بوابة محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الأعلى لدى الأمم المتحدة، الميدان الذي تمرّس فيه القاضي نواف سلام لسنوات طويلة، يعود إسم سلام إلى التداول في لبنان والعالم، بعد أنّ تم انتخابه رئيساً لمحكمة العدل الدولية للسنوات الثلاث المقبلة خلفاً للقاضية الأميركية جون دونوغيو.

سلام كان قد إنضمّ إلى المحكمة في العام 2018 وهو من ضمن الفريق القضائي الذي ينظر بإحدى أعقد القضايا التي طُرحت على محكمة العدل الدولية منذ تأسيسها عام 1945. قضية إصطف على ضفتيها العالم بأسره بما فيه القوى العظمى، وهي الدعوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، والتي اتّهمت فيها تل أبيب بإرتكاب ما يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية. فدخل نواف سلام البيروتي الوطني في تحدٍ دوليٍّ جديدٍ من نوعه، وكانت مكافأة المحكمة له بالأمس عبر تعيينه رئيساً لها، فيما أبواق داخلية تطلق تهماً بحقه تتناقض بمضامينها، مردّها تشويه صورة السفير الذي لم يُحسب يوماً لا على جهة داخلية ولا على قوى إقليمية، والقاضي الذي يُقدّره المجتمع الدولي، فيما نكرت بعض الكتل النيابية التي تدّعي الإصلاح والقوّة بالحق، معرفتها بمن يجمع بفكره أفضل ما في اليسار وأرقى ما في الليبرالية ويناصر الحق والقانون دون سواه.

من هو نواف سلام؟ 

دخل سلام عالم الديبلوماسية عام 2007 حيث شغل منصب المندوب الدائم للبنان في الأمم المتحدة حتى 2017. وفي تلك الفترة، ترأس جلسات مجلس الأمن الدولي ضمن فترة تمثيله للبنان في مجلس الأمن بين عامي 2010 و2011. شغل سلام منصب نائب رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والستين. و يتبوأ منصب قاضٍ في محكمة العدل الدولية منذ العام 2018. 
وعمِل أستاذاً جامعياً في العلوم السياسية وتاريخ الشرق الأوسط المعاصر في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة السوربون الفرنسية وجامعة هارفرد الأميركية. وهو حائز على شهادة الدكتورا في العلوم السياسية والتاريخ وماجستير في القانون. 

في التاريخ المعاصر للبنان، ترأس بلد الـ10425 كم2 مجلس الأمن الدولي مرتين. المرة الأولى مع شارل مالك عام 1958الذي شكّل إضافة حضارية وثقافية في الميثاق الأممي لحقوق الإنسان والمرة الثانية مع نواف سلام عام 2011. في فترة ترؤس سلام لأعلى مجلس أمني أُممي، كان الشرق الأوسط يغلي بملفات طافت على الساحة الدولية: من الصراع العربي الإسرائيلي، إلى الملف النووي الإيراني والأزمتين الليبية والسورية. لقد دفع سلام بالديبلوماسية اللبنانية إلى الخطوط الأمامية في كثير من الملفات، لا سيّما تلك المرتبطة بإنتهاكات إسرائيل اللامتناهية للقوانين الدولية وحقّ فلسطين بالإنضمام إلى الأمم المتحدة. و يسرد سلام في إحدى لقاءاته كيف بكى يوم أتت فلسطين لتقديم طلب عضويتها إلى الجمعية العامة. يقول، «بكيت في تلك اللحظة التي توجت عقوداً من العمل الفلسطيني». أُحيل طلب فلسطين آنذاك إلى مكتب رئيس مجلس الأمن الدولي، أي مكتب نواف سلام فحرص الأخير ألّا يُناقش طلب إنضمام فلسطين للأمم المتحدة في المجلس تخوفاً من الفيتو الأميركي المُحتم. أوقف سلام الجمعية العامة للأمم المتحدة 17 مرة تصفيقاً للطلب الفلسطيني، وإستباقا للضغط الأميركي توجّه سلام إلى الإعلام معلناً إستلامه ملف إنضمام فلسطين من البعثة الفلسطينية، مؤكداً أنّ الهيئة ستدرسه وتبتّ فيه. وفي عهد سلام، حصلت فلسطين على العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «الأونيسكو» في تشرين الأول 2011. كذلك، في عهد سلام اللبناني العربي وبمسعى منه مَنحت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، في تشرين الثاني 2012. 

وفي ملفات أخرى شائكة، وخلال ترؤس سلام الديبلوماسية اللبنانية في الأمم المتحدة، أدخل إلى السياسة الخارجية مفهوم «النأي بالنفس» من بوابة الملف السوري. يقول سلام، «أراد مجلس الأمن إصدار بيان رئاسي يدين أعمال العنف وعدم إحترام حقوق الانسان في سوريا، بموافقة كلٍّ من روسيا والصين إضافة الى دول أخرى، إلّا أّنّني تحفظت آنذاك بسبب الإنقسامات اللبنانية، وكان هدفي الحفاظ على وحدة وإستقرار لبنان ومنع تمدّد الأزمة السورية الى بلادنا». 
وفي حادثة أخرى في الإطار نفسه، قاد سلام حملة واسعة منعاً لتصويت لبنان ضدّ مشروع قرار في مجلس الأمن يدين النظام السوري. فيما كانت إرادة الرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي وقتذاك أن يصوت لبنان ضدّ المشروع الذي أسقطته كلٍّ من روسيا والصين كي لا تترتّب تبعات روسية، إلّا أّنّ سلام كان الأحرص على علاقات لبنان العربية وصورته الدولية في سعيه لتطبيق سياسة «النأي بالنفس» في تلك المحطة أيضاً، بعد أن أقنع الرئيسين سليمان وميقاتي بصوابية خيار «النأي بالنفس» وعدم الوقوف ضدّ الإرادة العربية الأميركية من جهة و الروسية من جهة أخرى. 
إستعاد لبنان في عهد نواف سلام زخمه على الساحة الدولية. ويشرح دور الديبلوماسية اللبنانية في تلك الفترة في كتابه «لبنان في مجلس الأمن 2010 – 2011». 
إنحياز  سلام للإنسان ولبنان وعروبة هذا الوطن معروف منذ ما قبل ترؤسه الديبلوماسية اللبنانية في نيويورك عام 2007. مواقفه داخل الأمم المتحدة عبرت عن لبنان الذي يريده، البلد الغنّي المتنوّع المترفّع عن الطائفية ودهاليزها. لم يكن صوت الغرب في محافل الغرب، ولم يكن صوت الشرق أيضاً. بل كان صوت لبنان كما أراده الكبار، لبنان جبران خليل جبران وغسان تويني وشارل مالك وغيرهم من الوجوه المضيئة في تاريخ لبنان على الساحة الدولية. طوال العشر سنوات التي قاد فيها سلام الوفد اللبناني للأمم المتحدة، كان السيادي الذي لم يُفرّط بسيادة لبنان، ولم يراوغ بحقوق لبنان بوجه الإنتهاكات الإسرائيلية. وكان العربي الذي وقف إلى جانب الحقّ الفلسطيني، لم يساير الغرب ولا سياساته ولم يمرّر أجندات المعسكر المواجه للغرب، بل كان يرتكز على القانون الدولي والمصلحة اللبنانية مُدوزناً السياسية الخارجية اللبنانية. 

 

في آب 2007، وخلال مداخلته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد سنة من عدوان تموز 2006، حمل نواف سلام المجتمع الدولي مسؤولية الأرواح التي تُزهق في لبنان بسبب القنابل العنقودية الإسرائيلية التي تقتل أطفالاً وعُزّلاً ومدنيين. متسائلاً: «كيف تستمر إسرائيل بالإمتناع عن تسليم الأمم المتحدة الخرائط التي تظهر الأماكن التي ألقت فيها القنابل العنقودية على لبنان؟». وأضاف بخطاب وطني جريء مُسجل إلى اليوم في سجلات الأمم المتحدة في نيويورك، «تخرق إسرائيل السيادة الجوية اللبنانية يومياً وإنّ إستمرار إحتلالها لمزارع شبعا يُشكل إنتهاكاً فادحاً للقرار الأممي رقم 425 الذي طالب القوات الاسرائيلية بالإنسحاب من كافة الأراضي اللبنانية عام 1978.. وعلى إسرائيل إنهاء إحتلالها للأراضي اللبنانية ووقف إنتهاكها للقانون الإنساني الدولي».

 

لا يخفي سلام، إبن البيت البيروتي العريق، تأثّره بالقضية الفلسطينية منذ سنين شبابه. و في واحدة من إطلالاته الإعلامية القليلة، صرّح قائلاً: «تأثرنا بهزيمة العام 1967 وبالحركات الطلابية عام 1968، ووقع هزيمة الـ67 كان صاعقاً على جيلنا، من هنا كان تبنّي العديد منا للمقاومة الفلسطينية التي كان شعارها في لبنان حرية العمل الفدائي». وفي قراءة نقدية لهذا النهج  يعبّر عن الخيارات الخاطئة آنذاك بحقّ لبنان «لقد حمّلنا لبنان حملاً يفوق طاقته ويجب إعادة النظر في تلك التجربة ، ولكن أعتقد أيضاً أنّ أصحاب نظرية قوة لبنان بضعفه كانوا على خطأ، ولا يمكن التفكير بعزل لبنان عن محيطه العربي». يكشف سلام أيضاً عن سبب تأثره بالأفكار الماركسية موضحاً «كانت تلك الأفكار في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أفكاراً تحرّرية وطريقاً للحداثة وساهمت بتحرير أبناء جيلنا من الطائفية». مضيفاً،« كنا مع فكرة المساواة بوجه الليبراليين الذين كانوا ينادون بالحرية، إلّا أنّنا أدركنا حاجتنا إلى الأمرين المساواة والحرية معاً».
حراك نواف سلام السياسي بدأ بعد إتفاق الطائف. يوم أنشأ مطلع تسعينيات القرن الماضي مجموعة ثقافية وطنية ضمت شخصيات لبنانية معروفة مثل سمير فرنجية وعدنان الأمين وسليمان تقي الدين. طالبت تلك المجموعة بخطوات فعلية وجديّة لقيام دولة مدنية ومحاسبة الفاسدين وبناء دولة القانون والقضاء المستقل. كان سلام آنذاك من الذين إستنهضوا المجتمع المدني من كبوته بعد سنوات الحرب التي قضت عليه. وكان الأحرص على أن يكون المجتمع المدني ما بعد الطائف قائماً على مفاهيم مدنية لا أهلية ضيقة مرتبطة بمنطقة أو طائفة أو جماعة ما.  

 

 إسهامات سلام ما بعد إتفاق الطائف تعتبر قيمة مضافة الى العمل السياسي في لبنان. فهو من أبرز الوجوه المؤسسة للمركز اللبناني للدراسات (LCPS) والجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الإنتخابات (LADE) التي عبرها أدخل مفهوم «النسبية» في الإنتخابات النيابية، وطروحاته قد نوقشت رسمياً وعلى أعلى المستويات ووضعت ضمن ما عُرف بقانون فؤاد بطرس آنذاك. و سلام من المؤمنين أنّ السلطة القضائية المستقلة هي التي تحمي الشعب، ولن يتحقق أي إستقرار في لبنان دون المحاسبة القانونية العادلة. 
في الختام، لم يكن طريق نواف سلام إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي سهلاً أو معبداً. كان عليه أن يضمن أكثريتين في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. تبنّت الجامعة العربية ترشّحه لعضوية المحكمة ، ووقف العرب خلفه، إلّا أنّ قوى عظمى صوّتت ضده. وهذا الأمر متروك، للذين يشكّكون بوطنية سلام أو إنتمائه العربي، إذ عليهم أن يعرفوا أنّه وصل إلى المحكمة الدولية بأصوات جنوب الكرة الأرضية مثل جنوب أفريقيا ودول أميركا اللاتينية، فيما صوّت مندوبو كلٍّ من: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا واليابان وأوكرانيا وإسرائيل ضدّ طلب عضوية نواف سلام في محكمة العدل الدولية. 
ويسعنا القول أنّ لبنان مع هذه الوجوه يستعيد بعضاً من دوره التاريخي في الجمعية الأممية بعد أن تقزّم حضوره الدبلوماسي خلال محطات عديدة في العقود الأخيرة على يد الطبقة السياسية منذ تسعينيات القرن حتى اليوم.