رموز بلا مضمون.. شتلة المر وشطرنج الحريري

رموز بلا مضمون.. شتلة المر وشطرنج الحريري

  • ٢٩ كانون الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

في عالم مليء بالتحديات والمصائب، لا مكان للزيف ولا لسياسة الـShow الإعلامي. وحدها السياسة التي تنبع من الصدق والثورة على الواقع والعمل الجاد تستطيع أن تغيّر المشهد.

في وسط غرفة الإجتماعات في «بيت الوسط»، كان سيّد الدار السابق، سعد الحريري، يضع رقعة شطرنج ويستقبل المسؤولين حولها، فيما الصحافيون يلتقطون الصور لنشرها. قد تظن أنّ الحريري، رئيس الحكومة السابق وسليل الشخصية التاريخية الأهم بعد «اتفاق الطائف»، رفيق الحريري، يلاعب أخصامه وحلفاءه في السياسة، لكن الواقع كان عكس ذلك تماماً.

ربما لا يعرف سعد لعب الشطرنج البتة، ولكن الأكيد أنّه لم يتقن «اللعب» في عالم السياسة. هو يشبه، إلى حدٍّ ما، رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، الذي درج على وضع رقعة شطرنج هو الآخر عام 2015، عندما قرر تأسيس تجمّع سياسي لم يُكتب له النجاح. بقيت رقعة الشطرنج على الطاولة في عمشيت، فيما تفرّق اللاعبون، وراح كل واحد منهم ليتدبر شؤونه.

كان ميشال المرّ، الوزير السابق، سبّاقاً في عالم الرموز التافهة على من عداه من السياسيين. كان المرحوم يضع شتلة خضراء مميّزة خلفه عند التصريح للإعلام، ليُظهر حبّه للبيئة، هذا على الرغم من امتلاكه ورعايته لمعظم كسارات ومرامل جبال المتن الشمالي التي شوّهت تلك البقاع الجميلة والجبال العالية.

في المقابل، بدت الكتب الكثيرة لرئيس الحكومة المكلّف نواف سلام في منزله، والتي انتشرت صورتها بشكل كبير عند استقباله وزير الخارجية السعودي الأسبوع الماضي، ملفتة. حاول الرجل، دون تكلّف أو حتى دون قصد، إيصال رسالة مختلفة تماماً عن سابقيه. فهو، على عكس رقع الشطرنج والشتلات، يريد أن يظهر نفسه كسياسي مثقف، مطّلع على الفكر والقانون والعلاقات الدولية. ربما الكتب ليست مجرد ديكور خلفي، بل انعكاس لمسيرة دبلوماسية وقانونية وأكاديمية تميّز بها سلام عن غيره من السياسيين اللبنانيين الذين اعتادوا إبراز أنفسهم من خلال الرموز السطحية.

لكن هل تكفي هذه الرموز أو حتى العمق الثقافي لتحقيق التغيير في بلد تُسيطر عليه الطبقة السياسية التقليدية المحكومة بآليات عمل النظام السياسي القائم؟ الجواب، بالطبع، أكثر تعقيداً، ويتطلب إرادة سياسية مختلفة عمّا اعتدناه لعقود. فقد أثبتت التجربة اللبنانية أنّ الرموز، مهما بدت جذابة أو برّاقة، أو حتى بدت بعض الشخصيات السياسية مهمة وحالمة ونظيفة الكف، لا يمكنها وحدها أن تُحدث فرقاً في نظام لبنان المعقد المبني على المحاصصة والزبائنية وشتى الرذائل الأخرى. أما من يظن أنّ قدوم شخص أو آخر جديد إلى السلطة يعني حكماً انتفاء الطبقة السياسية، فهو ليس حالماً فقط بل سطحي إلى أقصى حد.

الواقع اللبناني مليء بالتناقضات. فرغم الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي، تُصرّ الطبقة السياسية على تسويق نفسها بالأدوات القديمة، وكأنّ الشعب فقد ذاكرته. من رقعة الشطرنج إلى الشتلة الخضراء، ومن الصالونات السياسية المغلقة إلى الصور الملتقطة مع كتب القانون الدولي، يظل اللبنانيون، حتى الآن، عالقين في حلقة مفرغة من الشعارات والوعود الحالمة. تخايل أنّ الحياة السياسية «مكربجة» الآن بسبب هوية وزراء الطائفة الشيعية في الحكومة. كل التقدّم الموعود والمنتظر عالق في هذه المعضلة السطحية والمملة، وذلك حتى قدوم الفرَج، فيما الأمل مؤجّل حتى الإتفاق بين الرئيس المكلّف و«الثنائي الشيعي» على إسم من هنا أو آخر من هناك.  

بالواقع، ليست السياسة في لبنان لعبة شطرنج، ولا حدائق خضراء، ولا حتى رفوفاً مليئة بالكتب. هي خليط من التحالفات الظرفية، التفاهمات تحت الطاولة، والأجندات الشخصية التي تهيمن على المشهد. وبينما يبرز السياسيون صورهم المثالية أمام الكاميرات، يعرف الشعب اللبناني أنّ صورهم ورموزهم الموضوعة في زوايا «الكادر» مجرد تجميل لواقع رديء، أشبه بحبة كرز شهية على قالب حلوى فاسد.

الأزمة اللبنانية لا تحتاج إلى مزيد من المناورات الإعلامية أو محاولات التسويق الزائفة. الشعب بات يدرك أنّ التغيير الحقيقي لن يأتي عبر طبقة سياسية متمرسة في تقاسم الكعكة، بل عبر إرادة شعبية قادرة على فرض معادلات جديدة. وكما أثبتت الإنتفاضة الشعبية في 17 تشرين ومجمل الحركات الشبابية الأخرى، هناك تعطّش لدى اللبنانيين لنظام قائم على الكفاءة والشفافية، نظام يخدم الناس لا الزعماء المسيطرين على السلطة. 

قد تكون رقعة الشطرنج صورة جذابة للعبة إستراتيجية تحتاج إلى ذكاء وتخطيط، وقد تكون الشتلة الخضراء رمزاً للأمل في بلد أتلفته الجرائم البيئية، وقد تكون الكتب تعبيراً عن المعرفة التي نفتقدها في العمل السياسي. لكن الواقع اللبناني أكبر من هذه الرموز جميعها. هو واقع يحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، قادرين على كسر القوالب النمطية، والتعامل مع السياسة كفنٍّ لخدمة الناس، لا كمنصة لتمثيل المصالح الضيقة.

لقد أثبتت التجارب أنّ الشعوب قادرة على تجاوز الأزمات حين تتوفر القيادة الحكيمة والإرادة الصلبة. ولكن في لبنان، يبدو أنّ القيادة والإرادة تضيع غالباً بين لعبة المصالح، والأجندات الخارجية، والولاءات الحزبية. الشعب اللبناني لا يحتاج إلى صور رمزية، بل إلى إصلاح جذري يعيد بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم، وينقل البلاد من حالة الانهيار المستمر إلى مستقبل أفضل.

في عالم مليء بالتحديات والمصائب، لا مكان للزيف ولا لسياسة الـShow الإعلامي. وحدها السياسة التي تنبع من الصدق والثورة على الواقع والعمل الجاد تستطيع أن تغيّر المشهد. أما الرموز الفارغة، فهي تظل مجرد ديكور يختفي مع أول هبّة ريح، تماماً كما يختفي الأمل في ظل استمرار سيطرة نفس الطبقة السياسية التي قادت البلاد إلى الهاوية.