لا تزعلوا من صراحة «أورتاغوس»

لا تزعلوا من صراحة «أورتاغوس»

  • ١٠ شباط ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

نحن بارعون في تجميل الواقع، وفي إعادة صياغة الهزائم على أّنّها انتصارات. لكن ماذا يحدث عندما يأتي من يمزّق هذا القناع ويقول الأمور كما هي، كما فعلت «مورغان أورتاغوس»؟

ربما نكره نحن اللبنانيين الصراحة، ونحب الرياء حيناً وبعض التملق و«اللف والدوران» أحياناً أخرى. والرياء هو خبز العاملين في السياسة، مهما بدت وجوههم مشرقة ومسالمة أو نواياهم طيبة. دعونا من كل أدبيات القيم والنبل وكل التعابير المنمقة الأخرى، فعالم السياسة مكان لمكر الثعالب، لا مكان لوداعة الخراف. هذه «مورغان أورتاغوس»، نائب المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، وصراحتها الفجّة. قالت ما قالته في قصر بعبدا يوم الجمعة دون إكتراث لما سيكون عليه ردّ الفعل في الداخل اللبناني. وطبعاً، لِمَ عليها الإكتراث أصلاً، وهي ممثلة أقوى دولة وصديقة رئيسها؟ أي رأي لمسؤول لبناني يهمّ في أي شيء أصلاً، أو تكترث هي والإدارة الأميركية له فعلاً؟ 

 

في القصر، قالت إنّ «حزب الله خسر الحرب»، وإنّها «ممتنة لحليفتنا إسرائيل على هزيمته»، مكملةً حديثها الواضح حول رفض مشاركة الحزب في الحكومة اللبنانية وبداية نهاية عهده في «الترهيب في لبنان وحول العالم». هذه الصراحة يقابلها رياء أبيض في الداخل اللبناني، فعادةً ما تُغلَّف المواقف بالتعابير الفضفاضة، فبدل أن يقول بعضنا إنّ الحزب خسر، يقولون، عن تيه أو تعجرف أو سذاجة، إنّه انتصر. وبدل أن نقول إنّه قام بترهيب اللبنانيين مرات عديدة طوال السنوات الماضية، نقول إنّنا مع القضاء العادل، أو مع بسط سلطة الدولة على أراضيها.

 

وقاموس الأدبيات اللغوية اللبنانية المستعملة في عالم السياسة مجلد كبير. الخوف من أن يستحكم «الآخر» فينا نواجهه بالكلام عن «الميثاقية»، فيما نسمّي العجز عن إتخاذ قرار حاسم «حكمة وتأنّياً»، ونستبدل التبعية للخارج بمصطلح «الانفتاح على المجتمع الدولي». كل شيء قابل للتجميل وإعادة التدوير، حتى الهزائم يمكن تسويقها كـ«نصر إلهي»، والإنهيار الإقتصادي يمكن تغليفه بعبارات من نوع «إعادة الهيكلة» و«الإصلاحات الضرورية». هكذا نعيش في بلدٍ باتت الحقائق فيه نسبية، والواقع فيه وجهة نظر، واللغة سلاح يُستخدم لطمس الحقيقة أكثر من كونها وسيلة للتعبير عنها.

 

لكن «أورتاغوس» الجميلة لم تلتزم بقواعدنا البشعة. لم تراعِ «الخصوصية اللبنانية» في المواربة والإلتفاف على الواقع، ولم تبذل جهداً في البحث عن تعابير تخفّف من وطأة الحقيقة. قالت بوضوح: «الحزب خسر الحرب»، وهذا ما نعرفه. و«إن زمن ترهيبه انتهى»، وهذا ما نأمله...

 

الحقيقة التي قد تكون أكثر إيلاماً من تصريحات «أورتاغوس»، هي أنّ لبنان لم يعُد سيد قراره منذ زمن، لا في السياسة ولا في الإقتصاد. فمنذ متى كانت الحكومات تُشكَّل في بيروت فعلاً؟ ومنذ متى كان يُتخذ أي قرار جوهري دون الرجوع إلى الخارج؟ التصريحات الأميركية، كما التصريحات الإيرانية من قبلها، كلّها لا تفعل شيئاً سوى تأكيد ما نعرفه مسبقاً: نحن مجرد رقعة في صراع إقليمي، والمتحكمون بمصيرنا يتحدثون بصراحة حيناً، وبرمزية حيناً آخر، لكن النتيجة واحدة: نحن لسنا من يصنع القرار.

 

لذلك، لا داعي لأن نغضب من «أورتاغوس» أو أن نصطنع المفاجأة. ما قالته هو، ببساطة، الحقيقة التي نعرفها جميعاً، لكن نخشى أن نقولها لأنفسنا. المشكلة ليست في التصريحات بحد ذاتها، بل في ردّات الفعل التي تليها. فاللبنانيون، كالعادة، انقسموا بين من رأى في كلام «أورتاغوس» تدخّلاً سافراً في الشأن اللبناني، وبين من وجد فيه تأكيداً لما يؤمن به منذ سنوات. وبين هذين المعسكرين، هناك فئة ثالثة، صامتة في العلن، متململة في السر، تدرك أنّ الحقيقة ليست حكراً على أحد، لكنها لا تجد الدافع الكافي للإعتراف بها.

 

إنّه لأمر مألوف في بلدنا، أن يتحوّل تصريح إلى مادة للنقاش العقيم، دون أن يغيّر شيئاً في الواقع. فبعد كل تصريح أميركي أو غربي، تبدأ البيانات النارية والردود المستنكرة، وكأنّ صراخنا سيُعيد تشكيل المعادلات الإقليمية، أو أنّ خطاباتنا العصبية ستجعل واشنطن تعيد النظر في سياساتها. حتى أهالي طيرحرفا والجبين المثكولون بنتائج الحرب أصدروا بياناً استنكروا فيه زيارة «أورتاغوس» للمنطقة وتصريحاتها، ونفّذوا وقفة استنكارية. هؤلاء ظرفاء أو ربما تعساء، من يدري ما دار في خلدهم عندما قرروا «مواجهة الغطرسة الأميركية» على مفرق طريق بين بلدتين شبه مدمرتين في أطراف بلد محترق، ليس من أولوية أي أحد ذي شأن.

 

«أورتاغوس» قالت ما قالته، ولبنان سيبقى لبنان، يدور في حلقته المفرغة، يرفض أن ينظر إلى المرآة، ويستمر في خداع نفسه بعبارات منمقة عن «الصمود» و«السيادة» و«الوحدة الوطنية» و«العيش المشترك»، بينما الحقيقة الواضحة، التي لا تحتاج إلى دبلوماسية أميركية لتُقال، هي أنّنا لا نحكم أنفسنا، بل ننتظر من الخارج أن يقرر مصيرنا. فلا تزعلوا منها، هي قالت الحقيقة، ونحن نحب أن نكذب على أنفسنا أحياناً وعلى بعضنا كل حين. نحب أن نعيش في أوهام الإنتصارات الوهمية، ونستمتع بتحميل الآخرين مسؤولية أزماتنا، كأنّنا أبرياء من كل ما حلّ بنا. نحب أن نرفع الشعارات الكبرى، فيما تغرق البلاد في صغائر المصالح والمحاصصة. نحب أن نلعن الخارج حيناً، ونستجديه حيناً آخر. نحب أن نتظاهر بالسيادة، فيما قرارنا مرهون بغيرنا. فلا تزعلوا من «أورتاغوس»، هي لم تفعل شيئاً سوى تمزيق ورقة التوت التي نستر بها عوراتنا.