ديوان المحاسبة في لبنان: رقابة معطلة وهدر للمال العام

ديوان المحاسبة في لبنان: رقابة معطلة وهدر للمال العام

  • ١٨ شباط ٢٠٢٥

في قلب النظام المالي والإداري في لبنان، يتربع ديوان المحاسبة كأهم جهاز رقابي معني بمراقبة المال العام. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لهذا الدور، يبقى السؤال المحوري: هل كان ديوان المحاسبة يؤدي فعلاً مهمته الرقابية على أكمل وجه؟


ففي السنوات العشر الماضية، كان المال العام عرضة للهدر، في وقت كانت فيه التقارير الرقابية تصطدم بعوائق سياسية وإدارية، ما أثار العديد من التساؤلات حول فعالية هذا الجهاز المهم.

 ديوان المحاسبة: دورٌ أساسي في الحفاظ على المال العام

تأسس ديوان المحاسبة في لبنان في ظل دستور 1926، لكنه بدأ نشاطه الفعلي في الخمسينيات. منذ ذلك الحين، أصبح هذا الجهاز الإداري هو القاضي المالي الذي يراقب مئات الآلاف من المعاملات الحكومية سنويًا، ويُعتبر ضامنًا للشفافية على الرغم من الموارد المحدودة للدولة. ويتألف ديوان المحاسبة من قضاة وموظفين إداريين، ويرتبط بوزارة المالية لضمان حماية المال العام. مهمته تتعلق بمراقبة إدارات الدولة، البلديات الكبرى، والمؤسسات العامة لضمان صحة الحسابات القانونية.
التأثيرات السياسية على استقلالية الديوان
بحلول عام 1992،   بعد اتفاق الطائف،  أصبح ديوان المحاسبة يتبع إداريًا لرئاسة مجلس الوزراء. لكن، وبعد الاتفاق، خصصت رئاسته للطائفة الشيعية، وتحديدًا لحركة أمل. هذا التغيير أثار الكثير من التساؤلات حول تأثيره على استقلالية الديوان وقدرته على ممارسة دوره الرقابي بعيدًا عن التدخلات السياسية.
الشغور الإداري والفساد: أسباب رئيسية لعجز ديوان المحاسبة
منذ عام 2008، شَهِدَ ديوان المحاسبة شغورًا إداريًا في هيكليته. هذا الشغور أفقد الديوان القدرة على ممارسة الرقابة المالية الحقيقية، مما ساهم في تفشي الفساد على نطاق واسع، وجعل من الصعب ملاحقة المخالفات أو تدقيق الحسابات الحكومية.
الفساد المستشري: قضايا لم يُحاسَب عليها أحد
من أبرز الأمثلة على ضعف الرقابة هو أزمة النفايات في لبنان عام 2015، حيث اتُهمت أجهزة الرقابة بعدم متابعة القضية بالشكل المناسب. حملت الحملة الشعبية حينها ديوان المحاسبة المسؤولية الكبرى لعدم مواجهة الفساد والمفسدين في الدولة، بسبب غياب الرقابة الفعالة. من بين الملفات التي لم يُحاسب عليها أحد كانت وزارة المهجرين، مجلس الجنوب، ملف الكهرباء، "ليبان بوست"، "أوجيرو"، "سوكلين"، ووزارات الأشغال العامة والاتصالات والإعلام. حتى إن تقارير الديوان لم تُحول إلى القضاء المختص في العديد من هذه القضايا.
التدخلات السياسية تؤخر عمل الديوان
التدخلات السياسية كانت حجر عثرة في وجه عمل ديوان المحاسبة، حيث أدت المحاصصة الطائفية في الحكومات المتعاقبة إلى تعطيل محاولات تعيين القضاة بشكل قانوني. هذا الشلل الإداري جعل الديوان غير قادر على إصدار تقاريره السنوية في الوقت المحدد، ما أفقده القدرة على ضبط الخلل في الدولة. كما أنّ تدخلات الأحزاب السياسية، خصوصًا حركة أمل وحزب الله، أعاقت تعيين القضاة بشكل مستقل، وهو ما أثر بشكل كبير على فعالية أداء جهاز الرقابة.
ثورة 17 تشرين ودعوات لتفعيل دور الديوان
في عام 2019، وفي خضم ثورة 17 تشرين، طالبت الجماهير بتفعيل دور ديوان المحاسبة لمحاسبة الفاسدين، لا سيما في الملفات الكبرى مثل "ليبان بوست"، وزارة الأشغال، و"سوكلين". المتظاهرون ركزوا على ضرورة تحريك دور النيابة العامة في الديوان، وكذلك ضرورة تفعيل دور الرقابة على التوظيفات العشوائية، خاصة مع توظيف أكثر من 500 شخص بشكل غير قانوني في مؤسسات تابعة للدولة.
إنجازات الديوان في محاربة الفساد: بعض الأمل
على الرغم من كل هذه الصعوبات، هناك بعض الإنجازات التي تحققت. ففي عام 2021، نجح ديوان المحاسبة في إدانة فساد وزارة الأشغال المتعلقة بمطار رفيق الحريري. ووفقًا لتقرير الديوان، تم إدانة وزيري الاشغال السابقين ميشال نجار ويوسف فنيانوس، بالإضافة إلى رئيس مطار بيروت، فادي الحسن، وعدد من المدراء والموظفين الذين كانوا جزءًا من شبكة فساد في هذه القضية.
هل سيكون ديوان المحاسبة قادرًا على محاربة الفساد؟
في الوقت الحالي، يُعوَّل على حكومة نواف سلام وعهد الرئيس جوزيف عون لتفعيل دور ديوان المحاسبة. هناك حاجة ماسة لتجاوز التدخلات السياسية، وتعزيز استقلالية الديوان، لكي يتمكن من محاربة الفساد، وتحقيق الشفافية في إدارة المال العام. لكن هل سيكون الديوان قادرًا على القيام بهذا الدور الفاعل بعد سنوات من التقاعس؟
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل سيكون ديوان المحاسبة قادرًا على استعادة دوره الرقابي الفاعل، أم أنّ التجازبات السياسيةوالفسادالمستشري سيستمران في تقويض جهوده؟ وفي ظل ما يواجهه لبنان من أزمات اقتصادية وأمنية، يبدو أنّ الإصلاح الفعلي لن يتم إلا عبر تفعيل دور هذا الجهاز الرقابي الحيوي، والحد من التلاعب بالمال العام.