نواف سلام صهيوني
نواف سلام صهيوني
«أنا مثل السجين الذي ظلّ عشرين عاماً يحفر نفقاً في زنزانته، ثم اكتشف أنّ النفق الذي حفره يؤدي إلى زنزانة أخرى..» (محمد الماغوط)
في قراءة لما وصلت إليه أحوالنا في لبنان يصحّ فينا ما قاله محمد الماغوط يومًا «أنا مثل السجين الذي ظلّ عشرين عاماً يحفر نفقاً في زنزانته، ثم اكتشف أنّ النفق الذي حفره يؤدي إلى زنزانة أخرى..» إذ خلال أعمال الشغب على طريق مطار بيروت، مطار الشهيد رفيق الحريري إحتجاجاً على منع طائرة إيرانية من الهبوط في أرض المطار السائب منذ عقود والمستباح من كل غريب طارئ ووافد من دون أي استئذان، والذي شاع صيته في العالم كمطار متفلّت من أي رقابة للسلطة اللبنانية الدائرة في فلك الثنائي حزب الله وحركة أمل واللجان الأمنية التابعة للحزب، كما ذاع صيته كمنفذ جويّ مشرّع الأبواب أمام تهريب السلاح والممنوعات والبضائع وحتى البشر.
من المؤكد أنّ هذه السيدة الشابة لا تعرف شيئًا عن الصهيونية ولا عن ظروف تأسيسها ولا عن عقيدتها العنصرية، ولا عن تحكمها بالعديد من سياسات الدول في العالم، كما لا تعرف شيئاً عن الأصولية اليهودية ولا عن اليمين الإسرائيلي الدينيّ المتطرّف، فهي شاهدةٌ فقط على الدمار الذي ألحقه الحقد التوراتيّ التلموديّ بالجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية من بيروت وبالبقاع.
كما أنّه من المؤكد أنّ هذه السيدة لا تعرف من هو نواف سلام إلّا من خلال شاشة المنار وبالتالي هي لا تعرف شيئاً عن آرائه في الحياة وفي السياسة والإقتصاد والثقافة والقانون، ولا عن ماضيه النضاليّ في نصرة شعب فلسطين والقضية الفلسطينية ولا عن قناعاته الوطنية، كما لا تعرف شيئاً عن حاضره سفيراً للبنان في الأمم المتحدة وقاضياً رئيساً لمحكمة العدل الدولية وهو أعلى منصب قضائي في العالم، وبالكاد هي تعرف أنه رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة، وهي لا تعرف أيضاً عن سرعته في تشكيل أول حكومة في العهد الجديد، ولا عن براعته وحنكته في تقديم أول حكومة لبنانية واعدة وغير تقليدية، وفي اصطياده المتقن الكفاءات اللبنانية، رغم كل المطبات وأفخاخ تحالف المافيات والميليشيات الذي تحكم لعقودٍ باللبنانيين والذي عاث فساداً وفجوراً في الحياة اللبنانية بحماية فائض قوة حزب الله السياسية والعسكرية كما لا تعرف عن عبوره سالماً لحقول ألغام الطوائف والمذاهب والأحزاب المتحكمة بالمصير اللبناني. كما لا تعرف عن معاناته في لجم جشع المستوزرين ومحتكري هندسة الحياة السياسية في لبنان لعقود من الزمن.
هذه الصّيحة «نواف سلام صهيوني» هي الإعلان عن بداية حرب الدويلة على الدولة وعلى خطاب القسم والنفَس الجديد، وعلى الآمال المعقودة على تعديل موازين القوى في لبنان لصالح الدولة. هذه الصّيحة إن دلّت على شيء فإنّما على التعبئة المستمرة لبيئة حزب الله ضدّ كل ما يرمز إلى الدولة و ضدّ أي محاولة لاسترداد شرعتيها وإمساكها من جديد بقرار الحرب والسلم، وضد إحتكارها لحمل السلاح حماية للبلاد ولحقوق اللبنانيين أفراداً وجماعات بالعيش الآمن ومن دون أي شراكة مع أي طرف مسلح.
إنّها تعبئة مستمرة ضدّ إقفال الساحة الجنوبية والجزر الأمنية وفتح المناطق المحرمة على الدولة، بعد أن أثبتت الحروب والهزائم والخسائر المتلاحقة أنّ حزب الله عاجز عن تحقيق أي هدف وطني، وأنّه لا بديل عن الدولة فهي الخيار الوحيد للخروج من الفوضى والإنهيار ودوامة العنف، لأنّ السلاح لم يجلب للبنان سوى الموت والخراب والويلات له وللبنانين معاً، وكأنّ هذه الصّيحة التي تم تلقينها للسيدة حاملة الرّاية قد علت لأنّ في الأفق اللبناني فرصة نادرة وثمينة لإعادة بناء الدولة من خلال الدعم المحليّ والعربي والدولي غير المسبوق، والذي يعمد المتضررون المحليون والإيرانيون إلى تضييعها والقضاء عليها وإلى تنغيص فرحة اللبنانيبن بالفرج الذي يلوح في الأفق البعيد.
فالتعبئة الإيديولوجية المذهبية التي عمل عليها الحزب طويلاً منذ بدايات الثمانينيات تربوياً وسياسياً واجتماعياً وعسكريًا عبر تجنيد الأطفال والشباب وغسل الأدمغة الشابة ، كانت الغاية منها تأسيس مجتمع حرب هو نقيض للمجتمع اللبناني العادي، إنّه مجتمع حرب نقيض بهندسته وتنظيمه وحشوده، بشعاراته وأناشيده وراياته وبرامجه المدرسية وقبضاته المرفوعة وحركاته الجسدية وهتافاته، ونبرات أصواته، بعروضه العسكرية، وعراضاته الحزبية سواء في مطار بيروت أو بالإستعراضات السيارة في أحياء المدن والقرى والبلدات اللبنانية، وبالسلوك الحياتي وباللباس والعادات والتقاليد، وبالاستحضار الدائم للنزاعات المذهبية المزمنة وما رافقها من مآسٍ وجراح. مجتمع حرب نقيض باحتلاله الحيّز العام المشترك بين اللبنانيين بصور الشهداء والقادة وبالصور والنُّصُب التذكارية لقادة ورموز أجنبية غريبة عن البلاد وتاريخها وكل ذلك بهدف الاستيلاء على الدولة ومقدراتها وقراراتها ومؤسساتها ومرافقها الحيوية وعلى الحياة اللبنانية بتفاصيلها الدقيقة.
لقد عمل الحزب على تأسيس مجتمع حرب نقيض للإجماع اللبناني حيث لا مكان ولا حساب لأي آخر مختلف شيعياً كان أو لبنانياً آخر، كما عمل على تلقين المريدين أحتقار الدنيا ومتطلباتها عبر تمجيد الموت ووعود الآخرة. وما الغضب على العهد الجديد من أعلى المرجعيات الحزبية إلى أدناها سوى محاولة منع الدولة من أن تأخذ مكانها في حماية وصيانة التعدّد والتنوّع الثقافي والديني والإجتماعي والسياسي في لبنان، فكلّ هذا الغضب يعود إلى أنّ الدولة تحاول وضع رجلها في فراش حزب الله إذ أنّ سريره لا يتّسع لسواه وهو الذي تعوّد التوسع السّكاني والعقاري، فاذا كانت البلاد بكليّتها مشاعًا وملكاً للحزب يتصرف بها كيف يشاء فكم بالأحرى أن يكون المطار ملكية خاصة لا يُسمح للدولة بتسجيل أي حضورٍ فيه شأن كل دول العالم في التعامل مع مطاراتها ومرافقها ومعابرها الحدودية.
فبالأمس أقام العائدون من إيران للمشاركة في تشييع السيد حسن نصر الله عرضاً حزبياً في المطار واجهة لبنان الى العالم، بالصور والهتافات والشعارات والرايات الحزبية والأعلام الإيرانية، وكان ملفتاً في هذا العرض الفضائحيّ ما قالته تلك الصبية الغاضبة: «البلاد لنا و المطار لنا ومن لا يعجبه فليترك البلاد وليهاجر..» وقد جاء هذا العرض الحزبي متزامناً مع عرض شعبيٍّ آخر غاضب على طريق المطار حيث وقف عضو المجلس السياسي لحزب الله محمود قماطي ليُعلن في فورة غضبه احتجاجاً على منع الطائرة الإيرانية من استخدام مطار بيروت: «إنّ الدولة اللبنانية ليست فقط تحت الهيمنة الأميركية بل تحت الإملاءات الإسرائيلية.. وإنّ موقفها من منع الطائرة الإيرانية هو إهانة للسيادة والأرزة والكرامة اللبنانية لأنّه يأتي خضوعاً للتهديدات الإسرائيلية..» مما جعل معظم اللبنانيين يتساءلون، من كلف السيد محمود قماطي الدفاع عن الأرزة وعن تحصيل الكرامة اللبنانية! وهل تناسى خرائط وبلاغات أفيخاي أدرعي لخروج الناس ومن ضمنهم أهل الضاحية من بيوتهم ولمنعه أهل الجنوب من العودة إلى قراهم المدمرة بعد وقف إطلاق النار؟
فالجيش اللبناني الذي لا يُسمح له بفتح طريق مطار بيروت وحماية العابرين عليها وتفتيش حقائب الوافدين وحماية قوات الأمم المتحدة، كيف ستسمح له اسرائيل كما العالم بالإنتشار جنوباً وتنفيذ القرارات الدولية لإقفال الجرح الجنوبي وعدم سلخ الجنوب عن لبنان؟ أليس ما يجري من تعبئة واتهامات لرموز الدولة بالأسرلة والصهينة والأمركة ومن شغب وعراضات، كلها تشكل أكبر خدمة لإسرائيل ولاستمرار إحتلالها للأراضي اللبنانية ولعربدة المسيّرات والطائرات الحربية في أجواء لبنان حتى أثناء تشييع السيد حسن نصرالله؟ فهل المقصود من مصادرة المطار والطرقات المؤدية اليه فرض العزلة من جديد على لبنان واقفال كل الخطوط مع الخارج والإكتفاء فقط بالخط المفتوح بين الضاحية وطهران؟ بعد لوي الأذرع وإقفال كل الساحات الممانعة؟
إنّ الإيديولوجيا التي لا تستسيغ إلّا البعد الواحد والصوت الواحد والتي تلجأ إلى تخويف وتخوين وتصفية كل معارض لها هي على حربٍ دائمةٍ مع أيّ متغيرات، فما جرى في الجنوب وغزة، وما أنتجته تلك المغامرات والرهانات القاتلة تشير إلى أنّ الحزب لا يمكن له الاستمرار إلّا عبر تصدّع البنى السياسية والاجتماعية والتربوية والإقتصادية والأمنية والقضائية للدولة اللبنانية، هذا التصدع الذي شهدناه أعقاب الحرب الأهلية هو الذي ساعد على نشوء حزب الله واستمراريته.