العنف في المجتمعات: بين الواقع والسوسيولوجيا
العنف في المجتمعات: بين الواقع والسوسيولوجيا
يعيش العالم اليوم حالة من التوتر المزمن، حيث يتغلغل العنف في مختلف جوانب الحياة، من الحروب والصراعات المسلحة إلى العنف الأسري واللفظي، وصولًا إلى العنف الرقمي المتزايد. أصبح العنف أداة تلجأ إليها العديد من الجماعات لحل مشكلاتها، مما يستدعي دراسة «سوسيولوجيا العنف» ووفقاً لتولستوي: «إنّ كل إصلاح يفرض بالعنف لا يعالج الداء، إنّ الحكمة أن تبتعد عن العنف».
العنف كمشكلة صحية عالمية
أدركت المؤسسات الدولية خطورة العنف باعتباره مشكلة صحية عامة. ففي عام 1996، أعلنت الجمعية العالمية للصحة أنّ العنف يمثل تهديدًا متزايدًا للصحة العامة. وساهمت دراسات عديدة، مثل التقرير العالمي عن العنف والصحة (2002)، في تعزيز الاهتمام بهذه القضية وإدراجها ضمن أولويات الصحة العامة. كما أن النزاعات المسلحة، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والإرهاب، وانتشار الأسلحة، زادت من تعقيد هذه الظاهرة.
لكن العنف لا يقتصر على الأذى الجسدي المباشر؛ فهو يمتد إلى التهديد باستخدام القوة، سواء ضد الأفراد أو الجماعات. ويمكن أن يكون العنف جسديًا أو نفسيًا، كما قد يتجسد في أشكال غير مباشرة مثل الحرمان والإهمال.
جذور العنف: عوامل متعددة الأبعاد
يعود انتشار العنف إلى عدة عوامل تتداخل مع بعضها البعض:
العوامل السياسية: انهيار الدولة وضعف مؤسساتها يؤديان إلى ظهور جماعات مسلحة بديلة وصراعات على السلطة، إلى جانب التدخلات الخارجية التي تؤجج النزاعات.
العوامل الاقتصادية: الفقر والبطالة يزيدان من التوترات الاجتماعية ويدفعان الأفراد والجماعات إلى العنف كوسيلة للبقاء.
العوامل النفسية: الشعور بالظلم والإحباط قد يدفع البعض إلى العنف عندما يجدون أن الطرق السلمية غير مجدية لتحقيق أهدافهم.
العوامل الاجتماعية والثقافية: غرس مفاهيم الكراهية والخوف من خلال وسائل الإعلام والدعاية الموجهة يخلق بيئة خصبة لتصاعد العنف.
العوامل البيولوجية: رغم أن بعض النظريات ترجح أن العنف جزء من غريزة البقاء، فإن النزعة إلى التعاون والسلام تبقى السمة الطاغية في المجتمعات البشرية.
تصنيفات العنف وفق منظمة الصحة العالمية
عرّفت منظمة الصحة العالمية العنف بأنّه «الاستخدام المتعمد للقوة الجسدية أو التهديد بها ضد النفس أو الآخرين، مما يؤدي إلى أو يُحتمل أن يؤدي إلى إصابة أو وفاة أو ضرر نفسي أو سوء نمو أو حرمان». ويمكن تصنيفه إلى:
العنف الموجه ضد الذات: مثل الانتحار وإيذاء النفس.
العنف بين الأفراد: يشمل العنف الأسري والعنف بين الشركاء أو الغرباء.
العنف الجماعي: كالحروب والإرهاب والعنف السياسي.
كما يمكن تصنيفه بناءً على طبيعته إلى: العنف الجسدي، والجنسي، والنفسي، والعنف القائم على الإهمال أو الحرمان.
إنّ العنف الجنسي يشمل جميع الأفعال الجنسية غير التوافقية مثل التحرش والإغتصاب، في حين يُمارس العنف القائم على النوع الإجتماعي ضد النساء والفتيات بهدف تكريس الهيمنة الإجتماعية. أما العنف الأسري، فيتضمن إساءة معاملة الأطفال والعنف بين الأزواج، حيث تشمل إساءة معاملة الأطفال الإيذاء الجسدي والعاطفي والجنسي، بالإضافة إلى الإهمال والاستغلال التجاري.
سوسيولوجيا العنف: نظرة تحليلية
يمثل التعامل مع العنف في العلوم الإجتماعية اليوم تحديًا يتمثل في دراسة العنف كموضوع مستقل بعيدًا عن التصورات الأخلاقية والسياسية التقليدية يستند هذا التحليل إلى مفهوم "الحقيقة الاجتماعية" يستند هذا التحليل إلى مفهوم «الحقيقة الاجتماعية» الذي طوره إميل دوركهايم، والذي يبرز تأثير المجتمع القهري على الأفراد. ويسعى علم الاجتماع الحديث إلى فهم العنف عبر مستوياته المختلفة، من العلاقات الفردية إلى الديناميكيات الجماعية الأوسع.
)Hartmann 2014a, 2016, 2017)
إنّ العنف، كظاهرة اجتماعية، يتمتع بطبيعة مزدوجة؛ فهو يتجلى داخل الأفراد من خلال المشاعر والإدراكات، ويظهر على المستوى الجماعي عبر الممارسات الاجتماعية وأشكال الضبط الإجتماعي. لذا، فإنّ فهم العنف يتطلب تحليلًا للعلاقات المتشابكة بين الأفراد والبنى الإجتماعية التي تؤطر سلوكهم داخل الجماعات.
العنف كبناء إجتماعي
السياق الإجتماعي يلعب دورًا محوريًا في تحديد موقف الأفراد تجاه العنف، حيث تختلف نظرتهم إليه بناءً على التنشئة الإجتماعية التي خضعوا لها. فالمجتمعات تصنّف بعض أشكال العنف على أنّها مرفوضة، في حين تبرر أشكالًا أخرى باعتبارها ضرورية أو مشروعة.
على الرغم من ذلك، لا يزال هناك اتجاه يرى العنف كظاهرة طبيعية متأصلة في البشر، ويستشهد بسلوكيات بعض الكائنات الأخرى مثل الشمبانزي التي تظهر ميولًا عدوانية. إلا أنّ علماء الاجتماع يعارضون هذه النظرة، إذ إنها تعفي المجتمع من مسؤوليته في إنتاج العنف أو تبريره.
أبرز نظريات العنف التي درستها العلوم الاجتماعية
نظرًا لصعوبة فهم العنف، لجأ علماء الاجتماع إلى الاعتماد على نظريات تكشف الأسباب الكامنة وراء السلوك العدواني، مما يساعد في إيجاد الحلول للتعامل معه. ومن أبرز هذه النظريات:
نظرية الإحباط
يرى أنصار هذه النظرية، المتأثرون بالفلسفة الوجودية، أنّ العنف هو رد فعل ناتج عن الإحباط الشخصي أو الجماعي، عندما يفشل الفرد أو الجماعة في تحقيق أهدافهم أو طموحاتهم.
يحدث العنف عندما يشعر الفرد بأنّ هناك عقبات تمنعه من تلبية احتياجاته أو عندما يتوقع أن يواجه هذه العقبات مستقبلاً. تؤكد هذه النظرية أنّ الإحباط يؤدي إلى العنف عند توافر شرطين أساسيين:
أن يكون العنف وسيلة فعالة للتخلص من العوائق التي تحول دون تحقيق الاحتياجات. أو أن يكون الإحباط تعسفيًا وغير مبرر.
مثال على ذلك، شخص يتعرض للإهانة في العمل ولكنه لا يستطيع الرد خوفًا من فقدان وظيفته، فيعود إلى المنزل ويفرغ غضبه على أفراد أسرته. أو طفل يتعرض لسوء المعاملة من والديه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، فيحمل هذا الإحباط داخله ويصبّه على أشخاص آخرين في المستقبل.
وضع عالم النفس «دولارد» مجموعة من القوانين النفسية لتفسير العنف، منها:
كل توتر عدواني ناتج عن الكبت. وتزداد العدوانية كلما زاد الإحباط المكبوت. كما تزداد العدوانية مع تزايد العوامل التي تؤدي إلى الكبت
فيؤدي كبت العدوانية إلى تصاعدها لاحقًا، بينما يؤدي التنفيس عنها إلى تخفيف حدتها ولو مؤقتًا.
يتم توجيه العدوان نحو مصدر الإحباط بشكل مباشر، لكن إذا تعذّر ذلك، فإنّه يتم توجيهه إلى هدف بديل (ظاهرة كبش الفداء)
نظرية التعلّم الإجتماعي
تعتبر هذه النظرية من أكثر النظريات شيوعًا في تفسير العنف، وهي ترفض فكرة أنّ العنف ناتج عن دوافع داخلية، بل ترى أنّه سلوك مكتسب يتمّ تعلمه من خلال الملاحظة والتقليد والتعزيز.
يبدأ هذا التعلّم داخل الأسرة، حيث يشجع بعض الآباء أطفالهم على التصرّف بعدوانية في بعض المواقف، مثل قولهم: «إذا ضربك أحد، أضربه»، أو «لا تكن ضعيفًا أمام زملائك». كما يتعلم الطفل العنف من خلال مشاهدته لسلوك والديه في حل النزاعات.
كما أنّ وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية تساهم في نشر ثقافة العنف، حيث تمتلئ البرامج التلفزيونية والمحتويات الرقمية بمشاهد العنف التي تؤثر على الأطفال وتدفعهم إلى تبني سلوكيات عدوانية.
تشمل الفرضيات الأساسية لنظرية التعلم الإجتماعي ما يلي:
العنف يُكتسب داخل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام. وإنّ العقوبات الجسدية في التربية قد تؤدي إلى نتائج عكسية. فضلاً عن أنّ إساءة معاملة الأطفال في المنزل تؤدي إلى سلوك عدواني يظهر مبكرًا ويستمر في علاقات الشخص المستقبلية.
نظرية الصراع الإجتماعي
ترتكز هذه النظرية على الفكر الماركسي، الذي يرى أنّ العنف في المجتمع ناتج عن الصراع الطبقي وغيره من أشكال الصراع السياسي والعرقي والديني. عندما يكون هناك خلل في موازين القوى، يميل الطرف الأقوى إلى فرض سيطرته على الطرف الأضعف، مما يعزز دائرة العنف.
النظرية البنيوية الوظيفية
تعتمد هذه النظرية على فكرة تكامل الأجزاء في المجتمع. فكل مؤسسة إجتماعية لها وظيفة محددة تسهم في استقرار المجتمع. ولكن أي اضطراب في أحد هذه الأجزاء قد يؤدي إلى اضطرابات في باقي الأجزاء، مما يؤدي إلى العنف.
على سبيل المثال، تفكك الأسرة التقليدية، التي كانت تضم أجيالًا متعددة، أدى إلى تراجع الدعم الإجتماعي للفرد، مما زاد من إحتمالية العنف الأسري.
النظرية التحليلية النفسية
يعزو فرويد العنف إلى عدم قدرة الأنا على التكيف مع متطلبات المجتمع وقيمه ومعاييره، أو إلى ضعف الأنا العليا، مما يؤدي إلى تحرّر النزعات الغريزية العنيفة.
يعتقد فرويد أنّ السلوك البشري تحركه طاقتان بيولوجيتان:
دوافع الحياة (التي تسعى إلى البناء والتطور). ودوافع الموت (التي تتجلى في الكراهية والعنف والعدوانية).
وفقًا لعلماء التحليل النفسي الحديث، فإنّ العنف ناتج عن صراعات داخلية ومشكلات عاطفية غير واعية، مثل الشعور بالخوف أو النقص أو انعدام الأمان.
على سبيل المثال، قد يقبل شخص الإهانة في علاقاته بسبب تدني إحترامه لذاته، وهذا يُعد شكلاً من أشكال العنف الموجه ضدّ الذات. أو قد يسيء معاملة شريكه عاطفيًا أو جسديًا، وهو شكل من أشكال العنف الموجه ضد الآخرين.
الحقائق الإجتماعية
تتحول التجارب الفردية للأشخاص إلى تجارب إجتماعية عندما تتم مشاركتها. يمكن أن يكون الأفراد في نفس المكان أو يتعرضون لنفس الأحداث إلكترونيًا، أو يمكنهم استخدام وسيلة رمزية للتواصل حول تجاربهم مع الآخرين. إنّ التجارب المشتركة للعديد من الأفراد، التي يتم تبادلها بهذه الطرق، هي التي تشكل الثقافة أو المجتمع أو الأسرة. داخل الثقافات والمجتمعات والأسر، يتم تنظيم التجارب المشتركة في فئات من الأحداث التي يُشار إليها بأنواع مختلفة مثل المفاهيم أو البناءات أو المخططات.
يحدث البناء الإجتماعي للواقع بشكل طبيعي على المستوى غير الرسمي. تميل المحادثات غير الرسمية حول الأحداث والتجارب إلى أن تأخذ شكل «التفسيرات» — وهي محادثات تحدث بشكل طبيعي يحاول فيها الناس فهم تجربة ما (سكوت وليمون، 1968). يتم دفع شخص مسن من قبل مجموعة من الشبان، يعود إلى أقرانه ويتحدث عن كيفية وأين حدث ذلك، ومن كان حاضراً وكيف استجاب المتفرجون، وما هي خصائص المعتدين، وما إلى ذلك. مع مرور الوقت، مع مشاركة هذه التفسيرات، يبني المجتمع نموذجًا من الخبرات المشتركة التي يصبح فيها الفرد خبرة عامة ويرى أعضاء المجموعة بعضهم البعض وعالمهم الإجتماعي بطرق مشابهة. لا يشارك «الضحية» فقط في بناء هذه التفسيرات؛ بل يحيي «المعتدي» أيضًا التجربة مع آخرين ويرون الحدث بطرق مشابهة (بلومينثال-خان، 1972؛ براون، 1974). في العديد من الحالات، تعمل هذه التفسيرات على تبرير العنف أو زيادة شدته (ستوب، 1990).
في العملية الرسمية لبناء النظرية، يسعى العلماء أيضًا لفهم وشرح الظواهر الإجتماعية. يُتوقع من العلماء أن يعترفوا بقيود تجربتهم المشتركة، بدلاً من تعميم استنتاجاتهم لتشمل جميع الناس وجميع الحالات. يُتوقع أيضًا من العلماء أن يكونوا دقيقين ومنهجيين في طرق جمع المعلومات والتعامل معها. قد يقوم المنظرون بتنظيم الأحداث بشكل تسلسلي، مع النظر في العوامل السببية والآثار المترتبة على العنف، أو قد ينظمون الأحداث في تجريدات — مثل مستويات العنف أو القوى التي تؤثر على الأفراد لإحداث العنف. كما هو الحال مع التفسيرات الشعبية، يُتوقع من النظريات الرسمية أن تخضع لفحص صارم لتحديد صحتها (أي مدى تطابقها مع البيانات) وفائدتها. قد تكون النظريات المختلفة مفيدة بطرق مختلفة، وقد تكون كل منها صحيحة كما تصف جزءًا من التجربة الكلية. حاول بعض العلماء من بناء «نظرية فوقية» تتضمن مجموعة من النظريات المحدودة والأكثر تخصصًا.
يتضمن المنظور الاجتماعي للعنف كلًا من الفهم الرسمي وغير الرسمي. ما يتقاسمه هذان الفهمان هو التأكيد على التجربة المشتركة – بدلاً من الفردية – حيث أنّ هذه النظريات الإجتماعية تكون أكثر فائدة في الإشارة إلى الطرق التي يمكن من خلالها إحداث تغيير في السلوك من خلال معالجة الظواهر الاجتماعية بدلاً من محاولة تغيير الأفراد.
العنف بين الطبيعة والثقافة
يرى عالم الأحياء التطوري ستيفن جاي غولد أنّ العنف، رغم كونه أحد الإحتمالات السلوكية المتاحة للبشر، إلّا أّنه ليس حتميًا، إذ تتدخل العوامل الثقافية والإجتماعية في تحديد مدى إنتشار العنف أو الحد منه. وبالتالي، فإنّ العنف ليس مجرد غريزة طبيعية، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين الفرد والمجتمع.
يُعد العنف ظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبينما قد يُنظر إليه أحيانًا على أنّه ضرورة للبقاء، فإنّ بناء ثقافة جديدة تقوم على التسامح والتوزيع العادل للموارد قد يكون السبيل للحد منه. لذا، يبقى التساؤل: هل يمكننا كمجتمعات أن نكسر حلقة العنف ونبني عالمًا أكثر سلمًا؟