مفاوضات بلا ضجيج.. سوريا وإسرائيل على طريق السلام

مفاوضات بلا ضجيج.. سوريا وإسرائيل على طريق السلام

  • ٢٧ أيار ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

ربما لن يوقّع أحمد الشرع على نسخة محدثة من «كامب ديفيد». لكنه، على الأرجح، سيقود سفينة نحو هدوء طويل الأمد، ويُقال للشعب: إنّنا لم ننتصر، لكننا لم نُهزم. فقط اخترنا السلام، لأنّ الحرب لم تُبقِ لنا شيئاً.

لم تُطلق صافرات الإنذار، ولم تُعقد المؤتمرات الصحافية. فقط شقّ رفيع في الجدار، تسلّل منه خبر صغير كاد يضيع في زحمة المآسي: سوريا، التي خرجت من الحرب بوجه متعب وذاكرة مثقوبة، وافقت على تسليم أرشيف إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي عاش بين القصر الرئاسي في دمشق وشوارع المدينة، والذي دفنته دمشق ذات صباح منسيّ بعدما شنقته في إحدى ساحاتها عام 1965.

ليست الأوراق وحدها ما تغيّر مكانه. الجغرافيا تهتز، والتاريخ يُعاد تحريره، لا في كتب المدرسة، بل على طاولة المصالح. إنّ ما جرى ليس مبادرة أمنية أو فعل صدفة، بل همس دبلوماسي يتقاطع مع حركة أوسع، ترسم ملامح شرق أوسط جديد، حيث لا تُقرأ الخرائط بالألوان والمقاسات القديمة، بل بالأثمان الممكنة والمكاسب المتبادلة.

منذ أن صعد أحمد الشرع على أنقاض النظام السابق، لم يُخفِ الرجل رغبته في «انتهاز اللحظة». اختار الصمت حين قصفت إسرائيل مواقع على تخوم دمشق، ولم يُجب. لم يقُل الرجل شيئاً عندما سيطر الجيش الإسرائيلي على أراضٍ جديدة جنوب بلاده. وحين بدأت المساعدات الإسرائيلية تنساب بين درعا والسويداء، لم يعترض. واليوم، يفتح أرشيف كوهين كما لو أنّه يفتح صفحة في كتاب ماضٍ يريد طيّه. فهل هذه مؤشرات؟ أم بداية تسوية كبرى لا تزال تكتب بالحبر السرّي؟

الشرع نقيض تام للأسد. هو يعرف تماماً أنّ سوريا لا تبنى على ركام الخطابات المتوترة، كما يدرك أنّ البراغماتية قد تكون آخر أوراق الإنقاذ. لا الوقت وقت مقاومة، ولا الإقليم إقليم محاور. إيران خرجت بصمت، وروسيا مشغولة بثلوج أوكرانيا. وحده السلام، كيفما كانت ملامحه، صار على الطاولة.

قد يرى البعض في هذه الخطوات خيانة للدماء. وقد يُتهم الشرع ببيع «القضية»، كما اتُّهم أنور السادات من قبله وكل من مدّ يده ليصافح إسرائيل. لكنّ الحقيقة، كما يسردها الواقع المرّ، تقول إنّ السلام لم يعُد ترفاً ولا مطلباً ناعماً للقوى الغربية. إنّه خيار الضرورة، والخروج الوحيد من عنق زجاجة الإنهيار.

سوريا، الغارقة في ديون الحرب وعزلة السنوات، قد تجد في هذا الانفتاح طوق نجاة. فرفع العقوبات وحده كفيل بإعادة عجلة الحياة. أما ملف اللاجئين، الذي اختُصر في خيم وتفاوض عقيم على مرّ 15 سنة، فقد يعود إلى الواجهة كمطلب دولي تتكفل به «صفقة كبرى» تشمل إعادة الإعمار والإعتراف والعودة. 

وليس لبنان بمنأى عن هذا المسار. فبلدنا، العالق بين إنهيار اقتصادي وبطء سياسي، قد يلتقط أنفاسه إذا فُتحت بوابات المساعدات من ناحية سوريا. قد لا يكون لبنان على خط السلام الجدّي بعد، لكنه حتماً على خط الإرتدادات. وحين تهدأ الجبهة السورية ويصافح الشرع نتنياهو، ينتهي كل الصراع العربي – الإسرائيلي، فيهدأ الجنوب اللبناني، وتُسحب أوراق الضغط، وتتبدّل قواعد الإشتباك، ويذهب حزب الله ليتدبر أمره.

ثمّة من سيقول إنّ إسرائيل لا تُؤتمن، وإنّها لا تعطي بلا مقابل. هذا صحيح، لكنّ السؤال اليوم ليس عن نوايا العدو، بل عن جاهزية الدولة السورية، وغداً اللبنانية، التي انهارت مؤسساتها، فكيف تفاوض من موقع الضعف وتبني على ما تبقى من سيادتها شراكة حقيقية يمكن أن تحفظ ما يمكن حفظه من سيادة وحقوق. 

لم يعُد التطبيع شعاراً لبعض المنبوذين كما كان في الماضي. بل بات اليوم حقيقة قائمة، ونتيجة مسار بدأ فعلاً، وإنْ تحت الطاولة. من لقاءات باكو (آذربجيان) الأسبوع الماضي، حيث نشرت الوكالات الأجنبية عن لقاءات ثلاث بين قيادات من الحكومة السورية وغيرهم من إسرائيل، إلى تسليم أرشيف كوهين، ومن الغياب التام للعراضات السورية واللبنانية الرافضة لمد اليد صوب تل أبيب. السلام لم يعُد مؤجلاً، بل جارياً، وإن بغير إسم.

في دمشق، تغيّرت وجوه الحكّام ومعها تغيّرت سوريا. وفي تل أبيب، تتقدّم الواقعية على الإنفعال. أما في واشنطن، فعادت البوصلة تدور حول الثمن، لا حول القيم. هكذا يُصنع الشرق الأوسط الجديد: لا بالبطولات، بل بالصفقات. لا بالخطب، بل بالمراسلات والصفقات.

يبقى أن نسأل: هل سيكون هذا السلام عادلاً؟ هل ستحصل سوريا على الجولان؟ هل تُحفظ الكرامة في التسوية؟ لا أحد يملك الأجوبة. لكنّ الأكيد أنّ القطار انطلق. ومن لا يركبه، سيظلّ واقفاً في محطات الأمس، يقرأ من دفاتر انتهت صلاحيتها، ويسمع أناشيد حماسية ما عاد تحمّس أحد. 

ربما لن يزور أحمد الشرع القدس. وربما لن يوقّع على نسخة محدثة من «كامب ديفيد». لكنه، على الأرجح، سيقود سفينة نحو هدوء طويل الأمد، لا بدّ منه ليُعاد بناء الداخل، ويُعاد ترميم الشرعية، ويُقال للشعب: إنّنا لم ننتصر، لكننا لم نُهزم. فقط اخترنا السلام، لأنّ الحرب لم تُبقِ لنا شيئاً.