قلب روسيا العاري.. المسيّرات تنسف هيبة «إمبراطورية»

قلب روسيا العاري.. المسيّرات تنسف هيبة «إمبراطورية»

  • ٠٣ حزيران ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

الحدث لا يُقرأ من سطحه، بل من ظلاله. فالضربة لم تستهدف المطارات والطائرات وحدها، بل هشّمت صورة «القوة العظمى» التي تريدها موسكو

لم تكن الإنفجارات التي هزّت أعماق القواعد الجوية الروسية بالأمس مجرّد دويّ صاخب على هامش صراع طويل. لقد كانت، في رمزيتها وتوقيتها، بمثابة بلاغ ناريّ، صدر عن سماء تتحدّث بلغة النار، وأرسلته كييف على جناحي 117 طائرة مسيّرة، إخترقت الصمت الروسي العميق كما تخترق الرصاصات خلال الحرب صدور الغافلين.

في اللحظة التي كانت إسطنبول تتهيأ فيها لاستضافة مفاوضات علّها تطفئ شيئاً من لهب الحرب، جاءت «شبكة العنكبوت» لتقول ما لم تقله البيانات السياسية. فبينما كان الوسطاء يراجعون مسوّدات التسويات، كانت المسيّرات الأوكرانية تعيد رسم خطوط التوازن على خرائط النار. أربعون طائرة روسية، بعضها من طرازات تتغنّى بها الترسانات الكبرى، سقطت كما يسقط التمثال حين تُركَل قاعدته. قاذفات Tu-95 وTu-22M3، وطائرات A-50 التي تُراقب السماء كما يُراقب الشعراء الغيم، تحوّلت إلى رماد، والرقم الصادم سبعة مليارات دولار، لا ككلفة حرب، بل كثمن لصدمة في يوم واحد.

لكنّ الحدث لا يُقرأ من سطحه، بل من ظلاله. فالضربة لم تستهدف المطارات والطائرات وحدها، بل هشّمت صورة «القوة العظمى» التي تريدها موسكو. في عمق روسيا، حيث كانت موسكو تظنّ أنّ الحرب ستظلّ عند حدود الغير، جاءها الردّ من الداخل، لا من الثغور. اخترقت أوكرانيا العمق الجغرافي والعقيدة العسكرية الروسية، وقدمت برهاناً حسّياً على تحوّلها من موقع الدفاع إلى منطق المبادرة. هذا ليس مجرّد تطوّر في التكتيك، بل تحوّل في فلسفة الحرب ذاتها: من أرض تُحرَس إلى سماء تُخترق، من جبهات تُرصد إلى قلب روسيا المُستهدَف.

لكن المعضلة الأشد إيلاماً لموسكو لا تكمن فقط في حجم الخسائر، بل في الرمزية الموجعة: كيف لقوة ذات نفسٍ إمبراطوري توسعي تدّعي القدرة على مجابهة الغرب، وتريد فرض نفسها لاعباً في معادلات المتوسط والقطب الشمالي وأفريقيا، أن تعجز عن لَيّ ذراع جارتها الأقرب، والأصغر منها مساحة وعدداً واقتصاداً؟ كيف لجيش يُفاخر بترسانته النووية ويستعرض عضلاته في المحيطات، أن يُضرب في خاصرته بطائرات بلا طيّار تُدار من حواسيب صغيرة وبأكلاف رمزية؟ لقد انكشفت الفجوة بين خطاب القوة وصورة الواقع، بين ما تروّجه موسكو من هيبة لا تُمسّ، وما تُظهره الضربات من ضعف واضح جداً.

إنّ ما يُحرج موسكو اليوم ليس فقط ما خسرته على الأرض، بل ما تعرّى في الخطاب: دولة تقول إنّها تعيد رسم ملامح النظام الدولي، لكنها لا تُحسن تثبيت ملامح الأمن في عمقها الجغرافي. ومَن يعجز عن حماية قواعده، لا يحق له التنظير في مفاهيم «الردع الاستراتيجي» أو «الهيمنة على القرار الدولي».

هنا، يصبح السؤال: أيّ مفاوض يجلس بثقة إلى الطاولة بعد أن هُدِمت قواعده الجوية؟ وأيّ ورقة يرفعها حين تحترق أوراقه من الجو؟ تأتي هذه العملية لا بصفتها ردّ فعل، بل كفعلٍ يُكتب بالحروف الأولى لمرحلة جديدة. رسالة مزدوجة: إلى الداخل الأوكراني أنّ الحرب لم تعُد مستنقع استنزاف بل أفق مبادرة، وإلى الخارج أنّ كييف، رغم الجراح، ما زالت تقرأ من كتاب الإستراتيجية، وتكتب على صفحاته.

أما موسكو، فكانت روايتها أقل صخباً من الإنفجارات. كعادتها، تُقلل من شأن الضربات، لكنها لا تستطيع إخفاء ما انكسر في الداخل: هيبة الردع، وصورة السيطرة، ومعها بوصلة التحكّم. لقد تزعزعت المعادلة، وتحوّلت ضحية الأمس إلى خصم يمسك زمام المبادرة من جديد.

وفي واشنطن، لا يُخفى الرضى غير المعلن. فلكل طائرة مسيّرة أوكرانية تُسقط طائرة روسية، ثمة وزير دفاع يبتسم، وثمة فريق سياسي يجد في العملية دليلاً على «حُسن الاستثمار العسكري». لكن في المقابل، يلوّح جناح آخر بخطر التصعيد، متذكّراً أنّ كل شعلة في شرق أوروبا قد تُشعل فتائل أخرى على حدود الأطلسي.

أما تركيا، التي تحتضن المفاوضات كمن يحتضن جمراً في كفّه، فتدرك أنّ على طاولتها أكثر من أوراق تفاوض: هناك دم يسيل في الخلفية، وضجيج مسيّرات تفيد بالحرب أكثر من مئة فيلق وألف دبابة.

يبقى السؤال: هل هذا الفعل التفاوضي المقبل سيكون على أساس «توازن الندّية»، أم أنّ الضربات الأخيرة ستعيد خلط المعادلات بحيث تدخل كييف الغرفة وهي تمسك بزمام جدول الأعمال؟ وهل تتراجع موسكو خطوة إلى الخلف لتقرأ من جديد أم تُقدِم على خطوة إلى الأمام تُشعل بها المسرح بالكامل؟

لقد دخلنا في زمن المسيرات لا البيانات، في زمن تُكتب فيه الحدود لا بالإتفاقيات بل بخطّ الطيران. زمن لا تُحتَسب فيه الغلبة بالأمتار، بل بالهيبة، ولا تُقاس فيه النتائج بعدد القتلى، بل بعمق الأثر في مراكز القرار.

إنّها ليست فقط عملية عسكرية ناجحة، بل نداء رمزيّ في لحظة فارقة، تقول فيه أوكرانيا: «نحن هنا، في قلب المعادلة، لا على هامشها». وإن لم تُفضِ مفاوضات إسطنبول إلى السلام، فإنّ أصوات المسيّرات القادمة ستتكفّل بتحديد اتجاه المفاوضات القادمة… وربما شكل العالم من بعدها.