أعطوا الحرب فرصة

أعطوا الحرب فرصة

  • ٢٣ حزيران ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

ربما كانت أكبر بركة للحرب، أنّها تُزيل الأقنعة وتُفجّر الأوهام. فكل محور يختبئ خلف الشعارات، يُضطر لأن يكشف نواياه عندما تنفجر المعركة.

 

في عالم كثير الأقنعة، لا يبدو شيء أكثر رجساً من الحرب. تُدان في المؤتمرات، وتُرجم في الخطب، وتُجلد في تقارير الأمم المتحدة المملة والرتيبة. الجميع يشتمها، والجميع في الوقت عينه يصنع لها أسلحة أدق، ويستثمر في صناعتها أكثر مما يستثمر في القمح أو النفط. لكنها، رغم هذا الطلاء الأخلاقي الزائف، تظل الحقيقة الأكثر صدقاً: اللحظة التي تنزع فيها الأمم أقنعتها، وتنكشف فيها معادن الشعوب، وتُحسم المعادلة بين من كُتب له أن يعلو، ومن حان له أن يسقط.

وإذا كان السلام، كما يدّعي رجال المعابد وموظفي الجمعيات غير الحكومية، غاية البشرية، فإنّ الطريق إليه ليس دوماً معبّداً بالآيات المقدسة أو الندوات الحوارية. أحياناً، لا بد أن تمرّ الشعوب في جحيم المعارك والدم كي تصل إلى التسوية والسلام. أصلاً، ما هو تاريخ البشرية؟ إنّه تاريخ الحرب، لا أكثر. السلام هو الإستثناء، فيما الحرب هي الثابت في تاريخ البشر.

يقول إدوارد لوتواك، في مقالته الشهيرة «أعطوا الحرب فرصة» عام 1999، إنّ وقف إطلاق النار لا يُنهي الحرب، بل يُجمّدها، ويترك أسبابها في التربة لتنبت من جديد. أما إذا تُركت الحرب لتصل إلى منتهاها، فإنّها تخلق ميزاناً جديداً، وتفرض واقعاً مختلفاً، وتُسكت البنادق لا لأنّها ملّت، بل لأنّها حَسَمَت.

اليوم، تقف المنطقة أمام هذا النوع من الحروب: صدام إيراني-إسرائيلي يتدحرج بشكل خطير، وبينهما تتمايل واشنطن تائهة بين حدّين: الوفاء لتحالفها مع إسرائيل، والرهبة من حرب قد تُفجّر المنطقة وتلهب الأسواق. لكن، رغم كل التحذيرات، ورغم إرتباك الدول والدبلوماسيين، فإنّ هذا الصدام ليس خارجاً عن منطق الأشياء، بل قد يكون ممراً إجبارياً نحو تسوية لم تعُد ممكنة بالوسائل الناعمة.

فمنذ عام 1979، تراكمت الحسابات المؤجلة. إيران خلعت عن رأسها تاج الشاه، وارتدت عباءة الثورة وبنت مشروعها من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد وصنعاء ودمشق وملايين المسحوقين في هذه البقعة من الجغرافيا. لم يكن توسّعاً مذهبياً فحسب، بل إعادة رسم لإمبراطورية، تستلهم القوة والجبروت حيناً، كما المظلومية أغلب الأحيان. وإسرائيل، وهي نتاج مشروع غربي يستند إلى فكرة التفوّق والبقاء، شعرت أنّ هذا الإمتداد يطوّقها، وأنّ الزمن يعمل ضدّها. لم يعُد الأمن مضموناً، ولا البقاء مصاناً، حتى باتت الحرب بالنسبة لها ضرورة وجودية.

يُخطئ من يظن أنّ هذه الحرب هي فقط حول مفاعل نطنز أو صواريخ «الحرس الثوري» الإيراني البالية. هذه الحرب تتعلّق بهوية المنطقة، وبمن يملك قرارها في العقد القادم. هل تبقى أميركا شرطية المنطقة، أم تتراجع لتُفسح المجال لقوى إقليمية تتصارع على إرثها؟ هل تظل عقيدة «إسرائيل أولاً» قانوناً غير مكتوب في القرار الأميركي، أم أنّ التعب الأميركي من الشرق الأوسط سيفرض واقعاً جديدة؟ هذه الأسئلة لا وجود لأجوبة عليها في صناديق الإقتراع ولا في قاعات المؤتمرات، بل في ميدان النار.ومن الواضح أنّ أميركا لا تزال زعيمة هذا العالم، وبالنسبة لها «إسرائيل أولاً».. كما دائماً.  

وربما كانت أكبر بركة للحرب، أنّها تُزيل الأقنعة وتُفجّر الأوهام. فكل محور يختبئ خلف الشعارات، يُضطر لأن يكشف نواياه عندما تنفجر المعركة. حين تُقصف تل أبيب، يُسقط الإعلام الإسرائيلي كل أقنعة «التهدئة». وحين تُضرب منشآت إيران النووية، لا يعود هناك مجال للحديث عن «حق الإستخدام السلمي». تتجلى النوايا على حقيقتها: كل طرف يريد أن يكون الأقوى، وكل خطاب مختلف هو مجرد تزيين للهيمنة.

إدوارد لوتواك لا يمجّد الحرب لأجل الدم والشر، بل لأجل الحقيقة. ولعل أكثر ما يُدهش هو أنّ أفكاره، التي قوبلت بازدراء من النخب الدبلوماسية، تجد اليوم صدى في ميادين الواقع. أنظروا إلى أوكرانيا: وقف إطلاق النار في 2014 أبقى الصراع حياً، حتى انفجر بكامل شدته عام 2022. أنظروا إلى سوريا: التدخلات الدولية لوقف النار لم تؤدِ إلى تسوية، بل كرّست التقسيم الفعلي، وسمحت بولادة قوى الأمر الواقع. أما في البوسنة، فإنّ انتهاء الحرب بتفوق طرف على آخر، ورغم دمويتها، هو ما أسس لسلام حقيقي لا يزال قائماً حتى اليوم.

وفي لبنان؟ كم حرباً خُتمت باتفاقات هشة؟ كم تسوية قُدّمت على أنّها إنقاذ، وهي كانت تأجيلاً للكارثة؟ من «إتفاق القاهرة» إلى «إتفاق الطائف» إلى «تفاهم مار مخايل»، ظلّت البلاد تُدار بالمسكنات، دون أن تُحسم هويتها، ولا قرارها. ولو تُركت بعض الحروب لتُكمل، لكان لبنان ربما أمام وطن مختلف، أكثر سلاماً وأكثر وضوحا

في اللحظة الراهنة، يبدو أنّ إيران تُدرك تماماً أنّ الحرب هي لحظة الحسم. وإن كانت تخشاها وتبقى الطرف الأضعف فيها، إلّا أنّها أيضاً تراها طريقاً إلى إعتراف دولي بدورها، إلى فرض مقايضة كبرى بين أمن إسرائيل وشرعية برنامجها النووي.. أو ما تبقى منه. أما إسرائيل، فقد تعبت من إنتظار الدبلوماسية، وهي تعلم أنّ ضرب المشروع الإيراني اليوم قد يكون الفرصة الأخيرة لتجنّب شرق أوسط نووي.

فهل تكون هذه الحرب بداية شرق أوسط جديد؟ ربما. لكن الأكيد أنّها ستكون نهاية الوهم بأنّ الأمور تُحلّ من دون ألم، أو بأنّ المساعدات الدولية وبرامج المنظمات الأممية وصناديق الإغاثة واللقاءات في الفنادق قد تخرج بحل ما يوماً. لوتواك، حين كتب عن «إعطاء الحرب فرصة»، لم يكن شاعراً. كان واقعياً إلى حد الوحشية.واليوم، لا يحتاج الشرق إلى مزيد من الشعر والحمام الأبيض والخطابات الداعية إلى السلام، بل إلى قدر من القسوة يعيد ترتيب الخريطة، وينتهي بفوز أحد وهزيمة أحد آخر. إنّ الحرب ليست نهاية العالم. بل أحياناً، تكون بداية لعالم جديد كان من المستحيل ولادته من دونها.