المادة 122: قطيعة مع المغترب... والوطن

المادة 122: قطيعة مع المغترب... والوطن

  • ٣٠ حزيران ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

تمثيل الإغتراب ب 5٪ فقط، لا ينفصل عن العقلية التي لطالما نظرت إلى الإغتراب نظرة إرتياب، لا شراكة. لأنّ الصوت الإغترابي مُحرَّر من سطوة الزعيم المحلي، ولا يخضع للزبائنية السياسية التي تدار بها المعارك الإنتخابية داخلياً.

قبل كل دورة انتخابية، تعود إلى الواجهة الإشكاليات البنيوية التي تعانيها الحياة السياسية في لبنان، ليس فقط لجهة المعايير المتغيّرة في إدارة العملية الديمقراطية، بل أيضاً لما يكشفه القانون الإنتخابي من نوايا مستترة في تركيب السلطة وتوزيع التمثيل.

وبين هذه الإشكاليات، تطفو المادة 122 من قانون الإنتخابات كواحدة من أبرز مظاهر الخلل السياسي والدستوري، لما تحمله من إستهداف مباشر لفئة أساسية من اللبنانيين: المغتربين.

المادة 122، بنصها الحالي، تنصّ على تخصيص ستة مقاعد نيابية لغير المقيمين اللبنانيين، تضاف إلى المقاعد الـ128 المعتمدة حالياً، على أن يُصار لاحقاً إلى خصم هذه المقاعد من العدد الإجمالي وتوزيعها بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين على قارات الإغتراب الست. هذه المادة، التي قُدمت على أنّها خطوة نحو تعزيز مشاركة اللبنانيين المنتشرين، ليست سوى محاولة لتطويق صوتهم وحصره في إطار رمزي، لا فعلي، يفرغ مشاركتهم من مضمونها، ويفصلهم عن واقعهم السياسي والإجتماعي، وعن المناطق التي ما زالوا مرتبطين بها رغم الغياب.

المغترب اللبناني ليس كائناً منفصلاً عن الأرض، ولا عابراً فوق الوطن وهمومه. هو إبن هذا البلد، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: يمتلك أراضٍ، يدفع ضرائب البلديات، يموّل مشاريع تنموية، ويشارك في إعمار القرى والبلدات. في كل أزمة، من إنفجار المرفأ إلى الإنهيار المالي، وقف المغتربون سنداً فعلياً للبنان المقيم، بالدولار، بالدواء، بالمساعدات المباشرة، وبتأمين فرص العمل والإستشفاء والتعليم لعائلاتهم وأقاربهم. بل إنّ التحويلات المالية من المغتربين تُشكل اليوم العمود الفقري لاقتصاد منهار، إذ تسجّل سنوياً أكثر من 6 مليارات دولار أميركي.

فهل من المنطق، بعد كل هذا، أن يُفصل هذا المواطن عن قريته الأصلية ودائرته الإنتخابية؟ هل يُعقل أن يُطلب منه التصويت في قارة بالكاد يعرفها ولمرشح لا يعرفه، لا يرتبط معه بجغرافيا أو تاريخ أو نضال مشترك، فقط لأنه يقيم في الخارج؟

إنّ تخصيص ستة مقاعد للمغتربين لا يضمن لهم تمثيلاً حقيقياً، بل يعزلهم، ويحوّل مشاركتهم من فعل سياسي وطني إلى ممارسة شكلية لا أثر لها في رسم السياسات العامة أو تحديد الخيارات الوطنية. الأسوأ أنّ هذه المقاعد مقطوعة الصلة بالمناطق، فلا تمثل العائلات، ولا البيئات، ولا الجماعات، ولا التاريخ، بل تمثّل توزيعاً جغرافياً وهمياً لا علاقة له بالواقع اللبناني.

الدستور اللبناني واضح في التأكيد على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، دون أي تمييز قائم على مكان الإقامة أو الإنتماء الجغرافي. والمغترب هو مواطن لبناني يحمل الجنسية اللبنانية، ويتمتع بكامل الحقوق السياسية، بما في ذلك الحق بالإقتراع والترشح. وبالتالي، فإنّ التعامل معه كناخب من درجة ثانية عبر إختزال تمثيله بستة مقاعد فقط، يخالف الدستور ويؤسّس لتمييز مرفوض، يضرب جوهر الميثاق الوطني.

ناهيك عن أنّ هذا الإجراء لا ينفصل عن العقلية التي لطالما نظرت إلى الإغتراب نظرة إرتياب وخوف، لا شراكة. هناك من يخشى الصوت الإغترابي، لأنّه مُحرَّر من سطوة الزعيم المحلي، ولا تحكمه، إجمالاً، التوازنات الطائفية الهشة، ولا يخضع للزبائنية السياسية التي تدار بها المعارك الانتخابية داخلياً. وهذا الخوف هو الذي يدفع البعض إلى إبعاد المغترب عن التأثير الفعلي، بحجج تنظيمية ولوجستية واهية، تُخفي رغبة في تحجيم دورهم وإبقائهم خارج دائرة القرار.

أن يُخصص للمغتربين ستة مقاعد، فهذا لا يعني إشراكهم، بل محاصرتهم. فهل يُعقل أن يتم تمثيل ما يقارب مليون ناخب بستة نواب فقط، أي ما نسبته أقل من 5% من المقاعد النيابية، فيما نسبتهم السكانية والإقتصادية تتجاوز ذلك بأضعاف؟ وهل المطلوب أن يتحوّل الإغتراب إلى «جالية» كما هو حال الأقليات في بعض الدول، لا إلى شريك دستوري وبرلماني في صياغة القرار؟

الأدهى أنّ هذه المقاعد، بحسب القانون، لن تُضاف بل ستُقتطع لاحقاً من مقاعد الطوائف في لبنان، ما يجعلها مادة تفجيرية لا توافقية عند البحث عن مقاعد موجودة أصلاً ستلغى، ويطرح علامات استفهام حول الغاية منها: هل المطلوب فعلاً إشراك المغترب أم اللعب على التوازنات الداخلية عبر تعديل خرائط التمثيل بحجة الإغتراب؟

من المهم التوقّف عند موقف الكنيسة المارونية التي رفضت بشكل واضح تطبيق المادة 122، لا من منطلق طائفي ضيق، بل من منطلق وطني شامل. فالمغتربون المسيحيون، وهم النسبة الأكبر بين المنتشرين، لم يهاجروا ترفاً، بل هُجّروا نتيجة الحروب والإضطهاد السياسي والإقتصادي، والكنيسة ترى أنّ إبعادهم عن دوائرهم الإنتخابية هو محاولة لتكريس هذه الهجرة، وتحويلها إلى قطيعة نهائية مع الجذور، بدلاً من ترميم العلاقة معهم وتشجيعهم على العودة والإنخراط مجدداً في الحياة الوطنية.

وليس غريباً أن يتقاطع هذا الموقف مع رؤى القوى السيادية والمجتمع المدني، الذي يرى في المشاركة الإغترابية ركيزة أساسية في أي عملية تغيير ديمقراطي حقيقي، لأنّ الإغتراب يحمل رؤى متجددة، وجرأة في النقد، وقدرة على المحاسبة تفوق في كثير من الأحيان ما يملكه المقيمون داخل نظام خنقهم بالقمع أو الزبائنية أو الحاجة. 

لذلك، لا بدّ من العودة إلى الأصل، أي إلى اعتماد القيد الإنتخابي الفعلي للمغترب كما هو مسجل في سجلات الأحوال الشخصية، في قريته وبلدته ومنطقته ومدينته، وليس إلى اختراعات تقطع الصلة بين المواطن وأرضه. المغترب يجب أن يصوّت للنائب الذي يمثّل قضاءه لا قارته، ويختار ممثله في البرلمان بنفس الطريقة التي يصوّت بها المقيم، مع اعتماد آليات واضحة لتسهيل هذه المشاركة تقنياً وإدارياً، دون اختراع دوائر غريبة عنه.

إنّها معركة أكبر من مقاعد. إنّها معركة حول معنى المواطنة، ومفهوم الهوية، ودور القانون كأداة لإنصاف الناس، لا كوسيلة لتقطيعهم إلى فئات ومحميات. المادة 122، بصيغتها الحالية، ليست تقدماً في التشريع، بل تراجع في الحقوق. ولا بدّ من تعديلها أو إلغائها لصالح مقاربة وطنية شاملة تعيد اللبناني إلى وطنه روحياً ورمزياً ولو بقي في الخارج جسدياً، ولا تفصله عن ذاته.

لبنان اليوم في أمس الحاجة إلى كل أبنائه. فلا تقتلوا فيه ما تبقى من انتماء... بحبر قانون، ونصّ مجتزأ، ومقاعد لا تشبه الناخب.