عزاء ومهرجان.. صيفان في وطن «واحد»

عزاء ومهرجان.. صيفان في وطن «واحد»

  • ١١ آب ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

هل يريد لبنان أن يبقى بلد جبهات دائمة، أم بلد مهرجانات دائمة؟ لأنّ الجواب عن هذا السؤال، وحده، سيحدد إن كان العزاء والمهرجان سيلتقيان يوماً في ساحة واحدة، أم أنّ كل طائفة ستظل تعيش في فصلها الخاص من الحكاية.


لم تكن الحرب الأخيرة بين إسرائيل و «حزب الله» مجرد جولة عابرة في سجل الصراعات التي أثقلت ذاكرة اللبنانيين. كانت مرآة كاشفة، صدئة من كثرة ما علِّق عليها من أوهام عن نصر آتٍ، لكنها صادقة في عكس الفارق الصارخ بين وجهين للبنان. فمن جهة، «بلد» غارق حتى عنقه في الحداد والخسائر، ومن جهة أخرى، «بلد» يرقص على إيقاع الموسيقى ويستقبل المغتربين والسياح كما لو أنّ الحرب كانت في قارة أخرى.

 

في القرى الجنوبية والبقاعية، حيث النفوذ شبه مطلق للثنائي الشيعي، يتنفس الناس على وقع الأخبار العاجلة، ويعدّون أيامهم بعدد النعوش. كل أسبوع، مبنى ينهار في الضاحية الجنوبية لبيروت كأنّه كان ينتظر ضربة لم تأتِ كاملة، وكل يوم جنازة جديدة تُضاف إلى سجل الفقدان. هنا، لا مكان لألوان الصيف، فالأبيض هو لون الأكفان، والأسود هو ظلّ الحداد الدائم. النساء يخبئن دموعهن خلف نظرات صلبة، والرجال يحملون وجوهاً متعبة، يشيّعون رفاقهم واحداً تلو الآخر، فيما الأطفال يكبرون على أسماء الشهداء قبل أن يتعلموا أسماء أبطال الرسوم المتحركة.

 

أما خارج هذا الطوق الحديدي الحزين، في جبال كسروان والمتن والشوف، وفي شواطئ جبيل والبترون والدامور وطرابلس، وفي القرى النائية عن خط النار، ثمة لبنان آخر يتفتح كزهرة في عزّ الصيف. المهرجانات تتوالى، من مهرجان بيت الدين إلى بعلبك إلى إهدن وبشري، ومن إحتفالات القرى الصغيرة إلى الحفلات الصاخبة على الشواطئ. الألعاب النارية تملأ السماء، والضحكات تتطاير بين الطاولات المزدحمة. المغتربون يعودون محمّلين بالهدايا والذكريات، والفنادق تُحجز بالكامل، والمطاعم لا تكاد تجد فيها مقعداً شاغراً.

 

ليست المسألة شماتة أو رغبة في المقارنة القاسية، بل هي إنعكاس لواقع صنعته السياسة قبل أن تصنعه الحرب. المجتمع الشيعي وجد نفسه منذ عقود أسير معادلة فرضها «حزب الله» وحركة «أمل»: خندق دائم، واستعداد أبدي لمعركة قد تبدأ غداً أو بعد عام، لكن لا نهاية لها. بينما بقية الطوائف، حتى في أسوأ الظروف، أبقت لنفسها فسحة للتنفس، متنفساً من الفرح المؤقت ولو وسط الخراب العام والأزمات المتتالية.

لقد عاش الجنوب والبقاع والضاحية طويلاً على خطاب الإنتصارات، حتى حين كانت الأرض تُستنزف، والإقتصاد ينهار، والدولة تتآكل. قيل إنّ السلاح يحمي، لكنه اليوم يجلب الضربة تلو الأخرى. قيل إنّ «المقاومة» تصون الكرامة، لكنها باتت عبئاً على كرامة الناس الذين يُدفنون بلا صوت ولا خيار. دروع الإنتصار التي وُعِدوا بها صارت فجوات في جدار الأمان، والخطوط الحمراء التي طالما رسمها الحزب في خطاباته، سقطت واحدة تلو الأخرى تحت القصف الإسرائيلي وشماتة الخصوم.

 

في المقابل، الطوائف الأخرى، من الموارنة في الجبال إلى السنة والأرثوذكس في المدن الساحلية، ومن الدروز في القرى الجبلية إلى الأرمن في أحيائهم، تعيش صيفاً مشبعاً بالحياة. ليس لأنّها حققت نصراً أو تجاوزت الأزمات، بل لأنّها، أولاً، لم تكن في مرمى النيران. الحرب هذه المرة لم توزع الخسائر بالتساوي، بل وضعت طائفة في قلب النار وأخرى على مقاعد المشاهدين. كذلك الأمر، فإنّ خسارة طائفة لسلطة أو نفوذ يعني، تلقائياً، ربح بقية الطوائف، وهذه معادلة قاسية جداً لمن يعرف عمق الصراعات في لبنان، وهي، على جميع الأحوال، تصح على جميع الطوائف وفي مجمل تاريخ لبنان.

ولكن، هذا التباين في التجربة اليومية يعيد تشكيل الوعي الجمعي للبنانيين، ولو بصمت. فالذين يشيّعون قتلاهم بدأوا يدركون أنّ الحرب لا تحميهم، وأنّ «المعركة الأبدية» ليست قدراً لا مفرّ منه، بل خيار سياسي يصر عليه قادتهم. والذين يرقصون في المهرجانات يتذوقون طعم لبنان بلا صوت المسيّرات، ويشعرون أنّ الحياة الطبيعية ليست ترفاً بل حقاً. وبين الطرفين، ينهار الجسر الذي كان يربط بين الدم والمصير المشترك، ويتحول «الوطن الواحد» إلى أوطان من أقدار مختلفة.

 

الدنيا دولاب، وقد تدور في لحظة ليجد المحتفلون أنفسهم في مأتم، والمفجوعون على مسرح. لكن الثابت أنّ لبنان يعيش اليوم إنقساماً جديداً، أخطر من كل الإنقسامات السابقة: إنقسام التجربة الحياتية. بين من يقضي صيفه بين الجبهة والجبّانات، ومن يقضيه بين الشاطئ والمنتجعات الجبلية. بين من يعرف أنّ الغد قد يجلب له القصف، ومن يعرف أن الغد قد يجلب له حفلاً جديداً.

ولعل الأخطر، أنّ هذا الإنقسام لا يُدار عبر السياسة، ولا يُناقَش في الإعلام، بل يتسلل بهدوء إلى النفوس، ويعيد تعريف معنى الإنتماء. فحين تشعر طائفة أنّ الوطن لا يعطيها إلا الحرب، وتشعر أخرى أنّه يمنحها السلام، فإنّ فكرة الدولة نفسها تبدأ بالتآكل، كذلك فكرة العقد الإجتماعي ذاته.

لقد آن الأوان لأن يُطرح السؤال الذي تهرّب منه كل الأطراف: هل يريد لبنان أن يبقى بلد جبهات دائمة، أم بلد مهرجانات دائمة؟ لأنّ الجواب عن هذا السؤال، وحده، سيحدد إن كان العزاء والمهرجان سيلتقيان يوماً في ساحة واحدة، أم أنّ كل طائفة ستظل تعيش في فصلها الخاص من الحكاية.