«قاتل الغموض».. رئيس صريح زيادة عن اللزوم
«قاتل الغموض».. رئيس صريح زيادة عن اللزوم
ترامب إنّه الرئيس الذي ألغى الغموض من السياسة، وأعلن جنازة الدبلوماسية. رئيس يظن أنّ كل ما يحتاجه العالم هو عرض تلفزيوني يومي جيد يكون هو بطله دون منازع.
السياسة بطبيعتها فنّ الإخفاء. أن تقول نصف الحقيقة، وتخفي نصفها الآخر، وأن تترك للجمهور مساحة ليتخيّل. لكن دونالد ترامب لا يفهم هذا الفن. الرجل يتعامل مع المؤتمرات الصحافية كما لو كانت حفلة «ستوري» على إنستغرام: كل شيء حيّ ومباشر، بلا مونتاج، بلا «فلتر»، بلا كتمان.
في المؤتمر الأخير مع بنيامين نتنياهو، لم يلمّح ترامب إلى إتفاق أو حلّ مرتقب. لم يكتفِ بجملة غامضة من نوع: «نحن نقترب من إنجاز كبير». لا، هو جلس، وقرأ البنود واحداً واحداً: نزع سلاح غزة، قوات دولية، إنسحاب إسرائيلي تدريجي، منطقة إقتصادية خاصة، إعادة إعمار... حتى الخرائط الملونة وزعها البيت الأبيض كأنّها ملصقات تعليمية. بدا الأمر وكأنّنا أمام أستاذ جغرافيا يشرح درساً للصف الخامس، لا رئيس أقوى دولة في العالم.
هكذا، قتل ترامب مهنة كاملة إسمها «التحليل السياسي». ما الحاجة إلى «مصادر مطلعة» إذا كان الرئيس نفسه هو المصدر الأوضح والأعلى صوتاً؟ ما معنى «قراءة ما بين السطور» إذا كان الرجل يكتب على السطر نفسه وبخط أحمر؟ ما الحاجة إلى محلل سياسي وكل شيء واضح؟
ترامب لا يحتاج إلى ناطق رسمي. هو الناطق، والمسرِّب والعنوان الرئيسي. معه، لا سبق صحفي يصنعه صحافي، بل هو السبق بحد ذاته.
هذه الصراحة ليست عارضاً. إنّها جزء من شخصيته الإستعراضية. ترامب لم يخرج يوماً من عالم تلفزيون الواقع، حتى وهو في البيت الأبيض. كل شيء عنده عرض مباشر. كل موقف مادة دعائية. كل قرار مشهد يستحق الإخراج. يفاوض ثم يعلّق على مفاوضاته كما لو أنّه مذيع برامج حوارية.
مشكلة ترامب أنّه لا يعرف الفرق بين المنبر الإنتخابي ومنبر الدولة. يتحدث إلى العالم كما لو أنّه يتحدث إلى جمهوره في تجمّع إنتخابي بولاية أوهايو: جمل قصيرة، ضحكات مصطنعة، ووعود ضخمة لا تحتمل إختبار الواقع. هو رجل يعيش أمام الكاميرا ويتغذى منها. بل يمكن القول إنّ ترامب لا يحكم من البيت الأبيض، بل من الشاشة. البيت الأبيض مجرد ديكور. وهو، لا يترك لأي محلل سياسي شيء ليكتبه ولا غموض ليكشفه... جعلنا ترامب عاطلون عن العمل!
لكن في السياسة، هذا الأسلوب قد يدمّر اللعبة. لأنّ المفاوضات لا تعيش على الأضواء، بل تحتاج إلى عتمة صغيرة تسمح بالمساومة. تحتاج إلى أسرار. ترامب بالعكس، يضيء القاعة كلها. يضع الأطراف في زاوية علنية، ويمنعهم من المناورة، وهذا ما فعله بحركة «حماس»، إما القبول بعرضه والإستسلام، وإما الإنتحار.
ومع ذلك، يحب الجمهور هذا العرض. من اعتاد على الرؤساء الذين يخفون كل شيء ويعطونك لمحة من المعلومات، يجد في ترامب رئيساً يتحدث بلا قيود. لكن الجاذبية شيء، والفاعلية شيء آخر. لأنّ السياسة ليست مسرحية كوميدية، ولا برنامجاً مباشراً على فيسبوك. إنّها شبكة معقدة تحتاج إلى الصمت بقدر حاجتها إلى الكلام.
ترامب في النهاية ليس فقط رئيساً صريحاً زيادة عن اللزوم. هو أيضاً ممثل هاوٍ يظن أنّ الدبلوماسية موسم جديد من برنامجه التلفزيوني. رجل يتصرف مع السياسة كما يتصرّف نجم «ريلز»: كل يوم محتوى جديد، وكل تصريح مشهد مثير، وكل مؤتمر عرض مباشر. هو الرئيس الذي لا يعرف كيف يتركنا نتساءل. يقدّم الإجابات كلها، ثم يطلب منا أن نصفق.
وهنا المفارقة: الصراحة التي تشدّ الجمهور قد تعمي المفاوضين أو تطبيق الإتفاقات. الضوء الكاشف الذي يسلّطه ترامب على كل شيء قد لا ينير الطريق، بل يحرقه. إنّه الرئيس الذي ألغى الغموض من السياسة، وأعلن جنازة الدبلوماسية. رئيس يظن أنّ كل ما يحتاجه العالم هو عرض تلفزيوني يومي جيد يكون هو بطله دون منازع.