وهم التفاوض: لبنان يطرق باباً لن يُفتح

وهم التفاوض: لبنان يطرق باباً لن يُفتح

  • ٠٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

فإنّ الحديث عن مفاوضات لبنانية - إسرائيلية يشبه الحديث عن إتفاق بين الغيم والريح، كلاهما يتحرك، لكن لا شيء يربطهما سوى العبور فوق الأرض ذاتها.

الحدث الأبرز في بيروت هذه الأيام هو الرغبة اللبنانية في فتح باب التفاوض مع إسرائيل، أو على الأقل استكشاف إمكان تهدئة دائمة تقي البلاد حرب جديدة قد تكون أكثر تدميراً. خلف الأبواب، تتكاثر الروايات، بعض المستشارين يلمّحون إلى مبادرة «واقعية» يقودها رئيس الجمهورية جوزف عون تحت عنوان «منع الحرب قبل فوات الأوان»، فيما تتحدث دوائر دبلوماسية عن إتصالات غير معلنة تشارك فيها واشنطن والقاهرة لتقييم «مزاج تل أبيب». لكن خلف كل هذه الأجواء، تكمن حقيقة بسيطة وقاسية لا تحتاج إلى كثير من التحليل: إسرائيل لن تتفاوض مع لبنان، لأنّ لا شيء في لبنان يَستحق التفاوض عليه!

ففي منطق «حاكم الشرق الأوسط» بنيامين نتنياهو، الذي يجيد قراءة موازين القوة كما يجيد صناعة الأزمات، التفاوض ليس قيمة سياسية بحد ذاته، بل أداة للحصول على مكاسب محددة. المكاسب حققها منذ سنة في «إتفاق وقف إطلاق النار»، وهو، تبعاً للواقع والتجربة، يتفاوض فقط عندما يكون أمامه طرف قادر على إعطائه شيئاً. هكذا تعاملت إسرائيل مع مصر في كامب ديفيد، ومع الأردن في وادي عربة، ومع الفلسطينيين في أوسلو ثم في أوسلو الثانية، وحتى مع بعض الأنظمة الخليجية في موجة «إتفاقات أبراهام». أما لبنان، فلا يملك شيئاً يُغري تل أبيب للجلوس على الطاولة، لا ثروة غازية مؤكدة، ولا سلطة مركزية قادرة على تنفيذ إتفاق، ولا حتى قرار سياسي واحد يمكن التعويل عليه.

النية اللبنانية في التفاوض، إن وُجدت فعلاً، تنبع من خوف وجودي أكثر منها من استراتيجية مدروسة. فبيروت تدرك أنّ أي حرب شاملة ستكون كارثية على بنية الدولة والمجتمع، وأنّ «التهدئة» المؤقتة التي «يتكرم» بها نتنياهو على لبنان حالياً لم تعد مضمونة. لذلك، يحاول بعض صناع القرار تسويق فكرة أنّ التفاوض هو طريق الوقاية من الإنفجار، لا طريق السلام. إنّها محاولة لشراء الوقت، لا لصناعة المستقبل.

لكن منطق «الوقاية بالتفاوض» لا يُقنع أحداً في الجانب الآخر من الحدود. فإسرائيل تنظر إلى الدولة اللبنانية باعتبارها واجهة شكلية فوق واقع ميداني تحكمه معادلة «حزب الله». وهي تدرك أنّ أي مفاوضات مع الدولة الرسمية ستكون بلا جدوى طالما أنّ الطرف القادر على إتخاذ القرار الفعلي في الحرب والسلم غائب عن الطاولة. بل أكثر من ذلك، ترى إسرائيل أنّ مجرد الجلوس مع لبنان سيمنح شرعية سياسية لدولة عاجزة عن ضبط أراضيها وحدودها أو تنفيذ أي إتفاق يبسط سيادتها على حدودها، وهو ما يتعارض مع عقيدة الردع الإسرائيلية التي تقوم عليها استراتيجيتها في الشمال.

حتى الوساطة الأميركية – المصرية، التي يجري الحديث عنها بتفاؤل في بعض الأوساط اللبنانية، لا تبدو أكثر من محاولة دبلوماسية رمزية لإبقاء خطوط التواصل مفتوحة. واشنطن تريد تهدئة الجبهة الشمالية حالياً، فيما مصر تبحث عن دور إقليمي يذكّرها بأيامها الذهبية في «كامب ديفيد»، لكن كِلا الطرفين يعرف أنّ لا مقومات حقيقية لمفاوضات سياسية جدية بين لبنان وإسرائيل. فلبنان بلا ورقة ضغط واحدة، وإسرائيل لا ترى مصلحة في التنازل عن شيء مقابل لا شيء. لا يملك لبنان أسيراً إسرائيلياً واحداً ليفاوض عليه، لا يملك حتى قطعة سلاح واحدة تشكّل خطراً على قرية إسرائيلية حدودية...

لكن الأمر أبعد من رفض سياسي من إسرائيل بالتفاوض مع لبنان. إسرائيل تنظر إلى بلدنا اليوم كمشكلة إقليمية أكثر منها كجار ذي سيادة. في تقديرها، لبنان تحوّل إلى مساحة رمادية بين الدولة واللادولة، بين جيش يملك الشرعية ولا يملك القرار، وحزب يملك القرار ولا يملك الشرعية. ومثل هذا «الكيان» لا يمكن التفاوض معه لأنّه ببساطة لا يستطيع الإلتزام بشيء. وحتى لو أراد الرئيس عون أو أي جهة رسمية التقدم بمبادرة، فسيكون السؤال الإسرائيلي الأول: من يضمن أنّ «الطرف الآخر» في الداخل اللبناني سيقبل؟

اللبنانيون يعرفون ذلك، وإن لا يقولونه علناً. يعرفون أنّ بلدهم لا يملك مقومات الدولة القادرة على التفاوض، لا من حيث وحدة القرار ولا من حيث وضوح المصلحة الوطنية، ولا من حيث القوة. يعرفون أيضاً أنّ التفاوض في حالته هذه لن يكون سوى طقس رمزي آخر، مثل مؤتمرات الحوار الداخلية التي تنتهي دائماً إلى لا شيء. لكنه، برغم ذلك، يبقى في نظر البعض خياراً أفضل من الحرب. فالهروب من الجبهة، حتى عبر وهم التفاوض، يبدو اليوم شجاعة سياسية في بلد اعتاد انتظار الآخرين ليقرروا مصيره.

ومع ذلك، فإنّ الواقع يفرض خاتمة واحدة. نتنياهو لن يتفاوض معنا. ليس لأنّه يكره لبنان أو يحتقره فقط، بل لأنّه ببساطة لا يراه. بالنسبة إليه، لبنان اليوم ليس دولة على خريطة التفاوض، بل مساحة مفتوحة تحكمها معادلات الردع والحروب المحدودة. وبهذا المعنى، فإنّ الحديث عن مفاوضات لبنانية - إسرائيلية يشبه الحديث عن إتفاق بين الغيم والريح، كلاهما يتحرك، لكن لا شيء يربطهما سوى العبور فوق الأرض ذاتها.

في النهاية، ستبقى بيروت تتحدث عن «نية التفاوض» كما تتحدث عن الإصلاح، والسيادة، والحياد، وسائر المفردات التي تحوّلت مع الزمن إلى شعارات فارغة، مكررة وبليدة. أما إسرائيل، فستكتفي بالمراقبة. فالدولة التي تفاوض عادة من موقع القوة لن تجد فائدة في محاورة بلد لا يملك شيئاً ليفاوِض عليه.