برّي يرضخ بالإغواء لا بالعناد
برّي يرضخ بالإغواء لا بالعناد
برّي لا يتراجع إلا حين يشعر أنّه يربح أكثر. ومن يعرف دهاليز السياسة اللبنانية يعرف أنّ القوة ليست في مواجهة برّي، بل في القدرة على تقديم «عرض» يفوق قدرة الرجل على رفضه.
ليست القضايا الكبرى وحدها ما يحرّك العصب السياسي في بلادنا، بل التفاصيل الصغيرة التي تبدو في ظاهرها تقنية وباردة، لكنها في العمق تحوّلت إلى ساحات إختبار للقوة. واحدة من هذه الساحات اليوم هو مشروع تعديل قانون الإنتخابات للسماح للمغتربين بانتخاب نوابهم تبعاً لمكان نفوسهم. ملف تقني، نظرياً، لكنّه فجّر معركة سياسية أوسع من حجمه بكثير، حتى أصبح واجهة لصراع على النفوذ، وعلى ترسيم حدود اللعبة اللبنانية داخل مجلس النواب نفسه.
الرئيس نبيه برّي رفض إدراج المشروع على جدول أعمال الهيئة العامة. قرار منفرد، لكنه كان كافياً ليطلق سلسلة ردود فعل هجومية على الرجل. مقاطعة جلسة كان على جدولها قبول هبة دولية لإعادة الإعمار وإسقاط النصاب، ثم حملة إعلامية ضغطت بمنطق «فضح المعطّل» ومحاصرته شعبياً. وكأنّ المعركة هنا تريد أن تقول له: «سنفرض عليك التراجع بالقوة».
لكن خلف هذه اللغة، خلف كل ما يبدو كعصيان رمزي على رأس المنظومة، هناك حقيقة بنيوية أبسط بكثير: برّي لا ينكسر بالتحدي. لا يلين تحت الضغط المباشر. الضغط بالنسبة له ليس تهديداً بل فرصة للمزيد من التشدّد. الرجل بُني على منطق مختلف تماماً. برّي لا يتحرك إلا في الإتجاه الذي يضمن له ربحاً سياسياً ملموساً. وهذا ليس تحليل مزاج سياسي… بل تاريخ.
إرجعوا فقط إلى لحظة إقرار قانون 2017. حينها، لم يقبل برّي النسبية لأنّه آمن بها، بللأنّ التسوية التي كانت خلفها كانت تمنحه وضعاً إنسيابياً داخل التوازن الوطني الجديد الذي صُمم ذلك العام. هذه هي مدرسة برّي. التحرّك لا يبدأ من الإقتناع بل من المقايضة. لا من المبادئ بل من الربح السياسي الصافي.
في هذه المعركة الحالية، يمكن القول أنّ الإغواء موجود على الطاولة لمن يفهم فن اللعبة: حذف الميغاسنتر من أي نقاش لاحق، تمرير الهبة الدولية عبر جلسة جديدة، وربما تثبيت سقف غير معلن بعدم المساس بأي مقعد شيعي في أي إعادة توزيع لاحقة للمقاعد. عندها فقط، يصبح المشروع الإنتخابي الذي تريد المعارضة تمريره «صفقة»، لا «إملاء». وعندها يصبح التعديل خياراً مفيداً له، لا تنازلاً مفروضاً عليه.
المعارضون لبرّي اليوم يظنون أنّ الضغط هو الطريق. أنّ الكاميرات والفضيحة هي سلاحهم الأقوى. إنّ مقاطعة الجلسة السابقة وإسقاط النصاب هو شكل «القوة الجديدة». لكن هذه أدوات لم تُعِد يوماً تركيب التوازن اللبناني… ولا تقدر على إعادة تركيبه الآن.
برّي لا يتراجع حين يشعر بالتهديد… بل حين يشعر أنّه يربح أكثر بالتراجع. هذه قاعدة اللعبة معه. هذه معادلة تحكم تصرفاته منذ عقود وعقود، وربما لهذا السبب استمر في موقعه مهما تبدلت الظروف.
ومن يعرف دهاليز السياسة اللبنانية يعرف أنّ القوة هنا ليست في مواجهة برّي، بل في القدرة على تقديم «عرض» يفوق قدرة الرجل على رفضه.
ولعلّ الشخصية السياسية القادرة اليوم على فهم هذه القاعدة بشكل نظري وعملي في آن واحد هي سمير جعجع. الرجل الذي يعرف أنّ السياسة لا تُخاض بالبيانات، بل بصناعة الخسارة الوهمية أمام الخصم ليشعر أنّ الربح الحقيقي بانتظاره خلف الباب الآخر. جعجع يُدرك أنّ من يريد أن يكسر «فيتو» برّي، لا يبدأ بمعاداته، بل يبدأ بإغرائه. وأنّ الصفقة هي اللغة الوحيدة التي لا يترجمها برّي كضعف، بل كاعتراف بوزنه.
هذه ليست دعوة لصفقة بأي ثمن، بل دعوة لفهم طبيعة الخصم كما هو.. لا كما نريده أن يكون.
في النهاية، ستبقى هذه المعركة مثالاً إضافياً على أنّ لبنان لا يُدار بالمواجهات المباشرة بل بالهندسة السياسية الخلفية. وأنّ النظام، برغم ترهّله، ما زال يتحرك تحت منطق واحد لا شيء يمر بالقوة، بل كل شيء يمر بالمقابل. وإلّا فلا إنتخابات للمغتربين في الخارج، بل حزم للأمتعة وقدوم إلى لبنان في أيار القادم.
وبرّي، كما اعتاد منذ ثلاثة عقود، سيبقى ثابتاً حتى يظهر أمامه ذلك المقابل. وعندها… سيوافق. ليس لأنّه اقتنع، بل لأنّ الصفقة أصبحت أغلى من كلفة الرفض. كونوا واقعيين. هيا اذهبوا إلى عين التينة وأعطوه ما لا يستطيع أن يرفضه... ليعطيكم ما تتمنوه.

