هل جبران كذّاب؟ أم لجنتُه وبلديّة بشرّي أوقعتا به؟!
هل جبران كذّاب؟ أم لجنتُه وبلديّة بشرّي أوقعتا به؟!
أذكر، كأنّه البارحة، وجه المفكّر الراحل وهيب كيروز، ينضح توتّراً وغضباً، في إحدى زيارتي المتكرّرة له أواخر العام 1998. ما زلت أسمع كلماته التّي ظلّ يردّدها، يومها، كالهذيان وبلكنةٍ بشراويّة جميلة: "جبران ما بيكذب". بعد برهةٍ، ليست بقصيرة، وفقط عندما سمحت لي جرأتي، سألته عمّن أثار حنقه إلى هذا الحدّ غير المألوف. فاستجمع مقدرة الكلام، مثل طفلٍ يقاوم الإجهاش بالبكاء، ثمّ أخبرني عن مؤرّخٍ يُدعى روبن واترفيلد، نعت، في كتابٍ له، النبيّ البشراويّ بالكذّاب. "يخرب بيته" ظلّ يقول عنه. وفي عالم وهيب الفائق التهذيب، لمن لا يعرفونه: تلك هي قمّة السّباب.
لم يقتنع الناسك الجبراني، وهيب كيروز، بأنّ مُلهِمه الزاهد والمتصوّف يخجَل بالفقر ويكذب بشأنه، لاسيّما على توأمٍ لروحه مثل هاسكل. ليس جبران من يدّعي زوراً الرّخاء واليُسر، وهو الذي أسند جوهر تسويقه اللامع لأدبه وفنّه في المهجر إلى سرديّة ذاك الأمير القادم من أقاصي ومآسي الشرق المُشْبع بالجوع والعوَز.في ذلك اليوم بالذات، وبعد أن كان قد أتّم أبحاثه في عوالم جبران في الفكر والرسم، انطلق الأستاذ كيروز، هذه المرّة، في رحلة بحثٍ أخيرة مع المُهاجر اللبناني نحو بيت مولده. بحثٌ، كان في وجدان وهيب، مرافَعةً، في محكمة التاريخ، عن حبيبه جبران، في وجه ظُلم مَن اتّهموه بالكذّاب، وجَهْلِ مَن أوقعوا به وترَكوه.
صورة قديمة لبشرّي، يظهر فيها بيت مولد جبران قبل هدمه لصالح المنشيّة
امتدّت أبحاث وتحقيقات الأستاذ كيروز على مدى سنوات، وكان لي ترف الإطلاع على محطّاتها خطوةً خطوة، خلال زياراتي الطويلة والعديدة له. فهو لم يكن، في تلك الحقبة أصلاً، يتحدّث بأيّ أمرٍ آخر. كشفَت جهودُه عن عقاراتٍ كثيرةٍ، في بشرّي ومَرجْحِين في منطقة البقاع، تعود ملكيّتها لخليل، والد جبران. لم يكن هذا القدر من الأملاك بمتناول فقراء ذلك الزمن في تلك البقعة من العالم. الرجل كان ميسوراً وقادراً، دون أدنى شكّ، على تأمين حياةٍ لعائلته تفوق، في الرخاء، نوعيّة العيش السائد في تلك الفترة. قدّم وهيب، في دفاعه عن جبران، شهاداتٍ وصوراً ودلائلَ علميّةً ووثائقَ تاريخيّةً، استحصل عليها من مراجع متنوّعة، ومن محفوظات بلديّة بشرّي وأرشيف محكمة البترون، تُثبت، بشكلٍ خاصّ، مُلكيّة خليل جبران للمنزل القائم على العقار رقم 4119 في بشرّي. منزلٌ خسِرَه الرجل لصالح المطران بولس جبران، جرّاء دعوى ديونٍ مستحقّةٍ له على والد النبيّ. في الدعوى تلك، ومع حكم استحواذ المطران على بيت مولد جبران، وجَد وهيب وثيقةً فائقةَ الأهميّة والدقّة، يصف فيها أحد مخاتير البلدة حينها أقسام البيت، وكثيراً من تفاصيله الهندسيّة. وصفٌ لا يختلف عمّا كتبه جبران في رسالته لهاسكل، إلّا في أناقة اللّغة وعاطفة الكلمات. وجد وهيب البيت الذّي في الرسالة. وجدَه لكنّه كان مهدوماً.
منظور ثلاثيّ الأبعاد، رسمه المهندس جورج طوق، يظهر الواجهة الرئيسيّة لبيت مولد جبران
في خمسينيّات القرن الماضي، هدمت بلديّة بشرّي مبانيَ وبيوتاً عديدةً، لإنشاء ساحة الرئيس كميل شمعون. وبين البيوت تلك، سقط بيت مولد جبران، بعد أن استملكَته البلديّة من السيّدة عُطارد جبران، بوكالة المطران بولس جبران، دون مشقّة البحث في سجلّات مالكِيه. "ليست غلطةً، بل خطيئة لا تُغتفَر"، ظلّ وهيب يصف الأمر حتّى يومه الأخير، ويجزم بأنّ التاريخ لن يرحمنا.
يومٌ آخر دائم الحضور في ذاكرتي. يوم اتصّل بي عاشق جبران، وقال لي بلا سلامٍ ولا مقدّماتٍ، وبانفعالٍ يفوق غضب ذاك اليوم التشرينيّ قبل سنوات: "البيت راح". ظننتُ لوهلةٍ أنّ بيته سقط فوق رأسه، ثمّ أوضح: "هبَّطوه (هدموه) تَ عملوا المنشيّة (برك مياه متدرّجة). هبّطنا بيت مولد جبران يا جورج. يا عيب الشّوم علينا". وطلب منّي الحضور إلي بيته بأسرع ما أمكن، وهكذا فعلت. كنت حينها طالباً في الهندسة المعماريّة. أمطرَني، فور وصولي، بصُوَرٍ ووثائق ونصوصٍ وتوصيفاتٍ وخرائط، من ثمار سنوات بحثه في أملاك عائلة جبران وبيته. "بدنا نرسم البيت" قال لي بعبوسٍ وحزم، وطلب منّي، بصيغةٍ تُقاربُ الأمر، إعادة رسم خرائطَ البيت من مسطّحاتٍ ومقاطع وواجهات، وسألني عن إمكانيّة تطوير مجسّمٍ رقميٍّ ثلاثيّ الأبعاد للبناء. فأطعت وامتننت لتاريخيّة الفرصة في الدفاع عن جبران. رماني الرّجل، بغفلةٍ، بين ثنايا التاريخ، لأجد نفسي في ماضي بشرّي، ألعب مع جبران الطفل بين جدران بيت مولده، وأتأمّل غُرَفه وبِلاطَه وسقوفَه وأدراجَه، لأُنقل لوهيب الصورة الأقرب إلى الحقيقة. أربعة شهورٌ انقضَت قبل أن أُنهي مهمّتي، بتأنٍّ ومهابةٍ والتزامٍ بتعليماتِ وشروحاتِ الأستاذ وهيب، تماماً كما كنت أفعل في صفّ الأدب العربيّ يوم كنت تلميذه في إحدى مدارس منطقة بشرّي.
مسطّح الطابق الأرضي من بيت مولد جبران، رسمه المهندس جورج طوق وفقاً لوثيقة تعدّد أقسام المنزل
سخّر وهيب كيروز قلمَه وكلّ ما تبقّى له من طاقةٍ وأيّامٍ خَدمتْه بها صحّته، في خِدمة إثبات براءة حبيبه جبران من تهمة الكذب. بعد رحيله، أكمل ابنه، الشاعر بيار كيروز، جهود أبيه وأوصلها كتاباً إلى المطبعة، ونشره تحت عنوان: بيت مولد جبران وحديقته الكونيّة. لم تُولِ، حتى يومنا هذا، الهيئات الإداريّة المتعاقبة على لجنة جبران خليل جبران الوطنيّة في بشرّي مبحث وهيب كيروز أيّ اهتمامٍ أو جدّيّة. لم تدحَض صحّة ما ورَد فيه ولم تتبنَّ قيمة حقائقه. لم تقم، هي المؤتمنة على إرث جبران، بأقلّ الواجب لتثبت أنّ نبيّ الأدب لا يكذب.
تقوم بلديّة بشرّي حاليّاً بتطوير ساحة مار سابا، بمحاولةٍ سخيّةٍ منها لإنعاش وسط البلدة في التجارة والسياحة. صحيح أنّ الجهل بالشيء يجرّ إلى الخطأ، لكنّ بعد العلم به، يصبح الخطأ خطيئةً وتخاذلاً. من المحزن والمعيب أن تُسقط البلديّة من وجدانها، مرّةً أخرى، موقع بيت مولد جبران، وتعيد، بعد سبعين عاماً، خطيئة أسلافها يوم أسقطوا البيت لصالح المنشيّة. من الطبيعيّ ألّا يستسيغ العقل التجاريّ والإنتفاعيّ الواحات والمَحمِيّات التاريخيّة والثقافيّة، لكن لم يخطر ببال القيّمين على مشروع الساحة وفريق التصميم، على الأقلّ، أن يتركوا، في موقع البيت المهدوم، ولو بصمة تقول للزائر: إخلع نعليك من رجليك، فإنّ الأرض حيث تطأ هي موقع البيت الذي فيه وُلِد جبران خليل جبران.
مع هذا الجهل المزمن والتجاهل والتقصير من قِبل اللجنة والبلديّة، تبقى روح وهيب متألّمةً، ويبقى جبران خليل جبران عالقاً في تهمة الكذّاب، المُحرَج بتواضع جذوره البشرّاويّة. تهمةٌ أوقعتا به فيها لجنته وبلديّة بشرّي، وتنصّلتا منه أمام النقّاد والمؤرّخين والعالم. تبقى أيضاً تلك اللافتة الخشبيّة تقول "في هذا البيت ولد جبران خليل جبران"، وترتفع ، بلا حقيقة، فوق بيتٍ لم يولد فيه ابن كاملة وخليل. لافتةٌ، إن بقيت، فقد تقول مجدّدا لمؤرّخٍ آخر، وفي أيّ يوم: جبران كذّاب.