في ظلال حواجز «الردع».. وتأصّل العنصرية اللبنانية

في ظلال حواجز «الردع».. وتأصّل العنصرية اللبنانية

  • ٢٠ أيار ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

قبل استعادة العلاقات اللبنانية السورية، خطوات مطلوبة، أهمها تنقية الذاكرة.

أن تتذكر أياماً خلت، يعني غالباً الشعور ببعض الحنين إلى الماضي. لكن ليس كل ما يُستذكر يدفع صاحبه إلى الحنين، بل أحياناً إلى فهم أشمل وأوسع للحاضر. كنت في السابعة أو الثامنة من العمر، أتنقل مع والدي في سيارته «المرسيدس» الخضراء القديمة لنشتري الخشب من تجّار مدينة طرابلس شمال لبنان. كان علينا، في تلك الأعوام الأولى من التسعينات، أن نمرّ على ثلاثة حواجز للجيش السوري ذهاباً، وثلاثة إياباً.
لم أكن متحمساً البتة لهذه الرحلات حسبما أذكر، على الرغم من أنّ من كانوا في عمري كانوا يتمنون رحلة مجانية من القرية إلى المدينة. أما السبب في ذلك، فكان تلك الوقاحة التي ميّزت الواقفين على الحواجز، وأوامرهم «اللامتناهية» لكأنّهم حكام الأرض ومن عليها. يطلب العسكري السوري الدخان حيناً، والخبز أحياناً أخرى، أو حتى إيصال عنصر من حاجز إلى آخر. أما المارة في سياراتهم من اللبنانيين، فعليهم تلبية رغبات الجنود، طالما عليهم العودة بعد ساعات على نفس الطريق.

كان والدي ذكياً وقادراً على التكيّف مع الواقع، فطفق يستعمل حجة واهية عن عمله للهروب من الأوامر السورية. كان يردد أنّه يعمل حانوتي ويدفن الموتى من الناس، وعليه أن يشتري خشباً ليصنع التوابيت. كانت هذه المهنة كافية لهروبه من أوامر الجنود، فما أن يرونه حتى يرون الموت المحتّم القادم نحوهم، فيؤشرون له بالمرور سريعاً على الحاجز. لم يكن والدي يعرف أنّ أغلب من «يخدمون وطنهم» على الحواجز السورية في لبنان كانوا من أبناء الأرياف السورية الفقيرة، ويستعوذون بالموت والحانوتيين وكل ما يمتّ للفناء بصلة، فيما كان عمل والدي الحقيقي في مجال النجارة وتصميم خشب المنازل.
يمكن، في هذا الإطار، فهم بعض أسباب وجوانب العنصرية اللبنانية الطافحة ضدّ السوريين هذه الأيام. لم نكن أبي وأنا وحدنا ضحايا الوجود العسكري السوري في لبنان، بل كُثُر غيرنا كانوا ضحاياه. ونحن، إن لم نتعرض إلّا إلى بعض التضييق، لم نحمل في وجداننا إلّا بعض الغضب الذي سرعان ما تلاشى مع مرور السنوات، فيما غيرنا تعرّض للموت وحمل حقداً دائماً. ففي كلّ بيت لبناني وآخر رواية مع «الاحتلال السوري» و «الردع السوري» الذين امتد من عام 1976 إلى عام 2005. أقل من ثلاثة عقود بنيف، كانت كافية لربط الوجود السوري بأمور سلبية، وعكس هذه الصورة التي سبّبها الجنود على اللاجئين الذين تضيق فيهم الأرض اللبنانية حالياً.

لم يقتصر الأمر على الحواجز طبعاً، ولا على أوامر العسكر والضباط وغيرهم المنتشرين عند كل مفرق طريق في لبنان، بل تمّ خطف البعض وأودعوا السجون السورية. فيما مات الكثير غيرهم، خاصة من هؤلاء الذين قرروا في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) مقاومة الجيش السوري.

عند وصولنا إلى طرابلس، كان المشهد مغايراً. المدينة ذات الأغلبية السنيّة، كانت متعايشة مع الوجود العسكري السوري الكثيف فيها. وعلى عكسنا، لم يكن لديهم جرأة أو إمكانات للمعاندة والرفض أو حتى القول «لا». يعود ذلك على الأرجح، إلى معاندة المؤسسات الكنسية المسيحية للوجود العسكري السوري خلال التسعينات، وإلى تماهي تلك الإسلامية معه.

كانت القرى المسيحية المحيطة بطرابلس، وخاصة تلك الواقعة في أقضية بشري، الكورة والبترون، أكثر جرأة على رفض الواقع، وإن رمزياً. أتذكر الآن بعض أصدقائي القدامى في سنوات المراهقة، الذين كانوا يرمون الحواجز السورية ببعض الحجارة أحياناً، فيما أهلهم يرمون الجنود بالكثير من النظرات الغاضبة والفوقية من ناحية أخرى. بعض جيراني كانوا حتى يرشون السموم الزراعية والمواد المتعفنة في ربطات الخبر التي يُجبَرون على إحضارها إلى الجنود، فينتقمون منهم بهذه الطريقة، ولكن دون أن يُكثروا منها خشية من أن تؤدي إلى موت آكلي الخبر فيقعون في مشكلة ويتعرضون للملاحقة.
والمصيبة الكبرى، أنّ الوجود العسكري السوري في لبنان، لم تتمّ مقاربته، في المجال السياسي والتاريخي، بأي تفاهم أو مراجعة بين أطرافه. كان من يرفض هذا الوجود يعتبره إحتلالاً، فيما المتعاونون معه يعتبرونه «وجود شرعي ضروري ومؤقت»، على ما كان يردّد حلفاء سوريا في لبنان خلال التسعينات. أما الحكم السوري، فكان أكثر جذرية في مقاربة دخوله وتمركزه العسكري في لبنان، ويقول أنّه يهدف إلى ضمان سلامة اللبنانيين وعدم إندلاع الحرب مجدداً والمساعدة على مواجهة إسرائيل. ومن تاريخ مغادرة الجيش السوري لبنان عام 2005 وحتى اليوم، لم يغيّر أحد رأيه أو يقدّم مقاربة أقل جذرية أو حدّة، ولا حتى أجريت مراجعة شاملة لما كان قائماً قبل ذلك التاريخ.
حتى الأفراد العاديون، يمكن معرفة رأيهم في هذا الوجود، بعدما شهد ذلك العام وما تلاه من أحداث، حالة إستقطابية سياسية حادة، دفعت معظم الناس لأخذ طرف عند مقاربة الوجود العسكري السوري في لبنان ونتائجه. فيما هؤلاء الذين كانوا رافضين للوجود العسكري السوري هم نفسهم الآن ممتعضون من الوجود السوري اللاجئ، دون أن يعني ذلك أن من حابى الجيش السوري سعيد وممتن الآن إلى واقع بلاده وأثار اللجوء عليه.
لا يزال أبي، ومن هم في عمره، ممن عايشوا الحرب الأهلية وما بعدها من أحداث، يستذكرون الجيش السوري بالسوء ومغامراتهم معه. جلسة صباحية معهم يمكنها أن تدلّ على الكثير من الأحداث والظروف والأسباب التي تدفع اللبناني العادي إلى مقاربة عنصرية ضد اللاجئ السوري، إذ لا يفرّق الكثير من اللبنانيين بين العسكري الذي كان يقف على حاجز في الماضي، وبين لاجئ يقف على قارعة طريق الآن.
يبقى أنّ مقاربة شكل العلاقة بين الجانب اللبناني والسوري بحاجة إلى مراجعة، والأهم إلى تنقية الذاكرة من تأثيرات الحرب وما بعدها من ممارسات، فيما أي علاقة سليمة وسوية بين الجارين لا يُمكن أن تبنى إلّا بعد تنقية الذاكرة أولاً.