العجز والدين العام إنتصرا على ماكرون
العجز والدين العام إنتصرا على ماكرون
تشير التحديات الإقتصادية التي واجهها الإقتصاد الفرنسي في بداية العام ٢٠٢٤ الى تراجع شعبية الرئيس ماكرون،ما إنعكس على نتائج إنتخابات البرلمان الأوروبي.
تعتبر فرنسا ثاني أكبر إقتصاد في أوروبا، لكن في الوقت عينه تعاني من نقص اليد العاملة، وتراجع الإنتاج الصناعي، كما أنّ إرتفاع مستويات الدين للإقتصادات الكبرى في العالم، من التباطؤ الإقتصادي في ألمانيا والصين وإرتفاع أسعار الفائدة بشكل قياسي، إنعكس على الإقتصاد الفرنسي، فلجأت فرنسا إلى ميزانية تقشفية، قللت من خلالها التقديمات الإجتماعية، مقابل رفع التمويل العسكري لدعم أوكرانيا، مما له إنعكاسات على معيشة وصحة الفرنسيين.
أشار تقرير للمفوضية الفرنسية في تموز 2023 إلى أنّه يتوقع أن يستمر نقص العمالة في كل من الوظائف ذات المهارات العالية والمنخفضة، مدفوعاً بخلق وظائف جديدة والحاجة إلى إستبدال العمال الذين يتقاعدون. ويبقى الحل أمامهم هو الإعتماد على العمال المهاجرين. ويعتبر نقص العمالة هو أحد التحديات الأكثر شيوعاً في القطاع الإقتصادي في فرنسا.
هذا وبلغ عجز الموازنة العام الماضي كان 170 مليار دولار، وهو يوازي عجز الحكومة أثناء أزمة كورونا. إضافة إلى ذلك، تقرر دعم تقديم مساعدات لاوكرانيا في نيسان 2024، بقيمة 3 مليار دولار، وهذه التكلفة سيتكبدها الشعب الفرنسي. وما طرحه ماكرون كحل، يكمن في طبع المزيد من العملة، والإقتراض من الأسواق المالية العالمية، فيما لا يوجد ثروة منتظرة لفرنسا، تسمح بإغراق الدولة بالمزيد من الدين. فالدين العام كان قد ارتفع بين عامي 2019 و2023 بـ 700 مليار يورو، أما الناتج المحلي الخام ارتفع 330 مليار يورو فقط.
ومنعاً من خرق قواعد ميزانية الإتحاد الأوروبي التي تقيّد الإقتراض الحكومي، خفّضت فرنسا تكاليف العجز إلى 4.4 في المئة من 4.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. كما أنّ باريس قلقة بشكل متزايد من تخفيض تصنيف الديون الفرنسية من قبل وكالات التصنيف الدولية، وهو ما سيزيد من تكاليف الإقتراض.
في بداية هذا العام، حاول ماكرون تلقف الوضع، وأعاد تشكيل حكومته، حيث عيّن رئيس وزراء جديداً هو غابرييل أتال الذي دعا إلى «إعادة تسليح» مدني وإقتصادي لفرنسا. كما تعهد ماكرون بمزيد من الإجراءات المؤيدة للأعمال التجارية وتعهد بتقليل ديون فرنسا.
وفي محاولة لمواجهة إرتفاع الدين العام، أعلن وزير المالية الفرنسي برونو لو مير أنّ فرنسا ستواجه «ميزانية تقشفية»، فخفضت 10 مليارات يورو من الإنفاق الحكومي، مما قلّص الإنفاق في الوكالات الحكومية الرئيسية، بما في ذلك التعليم والعدل والدفاع. وأتت خطة التقشف كاستجابة للعجز المالي وارتفاع الدين العام، الذي وصل 112 في المئة، وهو يتخطى معدل الدين العام في الإتحاد الأوروبي.
وكان النمو الإقتصادي قد توقّف في الدول العشرين التي تستخدم اليورو، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 مقارنة بالربع السابق، مما أدى بالكاد إلى تجنّب الركود بعد انكماش في الربع الثالث. وعلى مدار العام، نمت منطقة اليورو بنسبة 0.1 في المئة فقط، ذلك بسبب أزمة طاقة طويلة الأمد، وكانت ضربة قوية لألمانيا التي يعتمد إقتصادها على الصناعة بشكل أساسي، والإقتصاد الأكبر في أوروبا وأكبر شريك تجاري أوروبي لفرنسا.
لكن تباطؤ التعافي ليس حكراً على فرنسا، إذ لم تتمكن أوروبا من الإنتعاش بسرعة الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يزال الإقتصاد، رغم تباطئه، مدعوماً بإنفاق المستهلكين. وهذا ما وصفة لو مير بالـ «الفيل في الغرفة»، معتبراً «أنّ المشكلة الحقيقية هي فجوة النمو بين أوروبا والقارة الأمريكية»، مشيراً إلى أنّ الناتج الضعيف في أوروبا كان مقلقاً بشكل خاص لأنّ القضايا الهيكلية، بما في ذلك المعايير البيئية والعمالية والمعايير التنظيمية الأخرى، جعلت من الصعب تضييق الفجوة التنافسية مع الولايات المتحدة، مؤكداً أنّ «التباطؤ الاقتصادي هو الثمن الذي يجب أن ندفعه لانتصارنا على التضخم».
كما شكل حراك المزارعين أزمة للحكومة الفرنسية، إذ يشكل المزارعون الإنتاج الزراعي الأكبر في أوروبا، ويعترضون على تدني رواتبهم والتنظيم المفرط في حماية البيئة. كما يخافون من المنافسة من الواردات الأرخص والقواعد البيئية، التي يشترك فيها المنتجون في بقية الإتحاد الأوروبي بينما قضايا أخرى، مثل مفاوضات أسعار الغذاء هي أكثر تحديداً لفرنسا.
كما اعترضوا على دفع الحكومة وتجار التجزئة تخفيض التضخم الغذائي، مما جعل العديد من المنتجين غير قادرين على تغطية التكاليف العالية للطاقة والأسمدة والنقل. وشكّلت خطة الحكومة للتخلص التدريجي من تخفيض ضريبي للمزارعين على وقود الديزل، نقطة خلافية كبيرة .
وتشمل مطالب المزارعين إلغاء ضرائب الطاقة المتعلقة بالقطاع الزراعي، وتعزيز قوانين السلامة الغذائية، ومراجعة الضرائب الزراعية، والمساعدة المالية لتركيب الألواح الشمسية على الأسطح.
إستجابةً لذلك، عرضت الحكومة الفرنسية على المزارعين مساعدات مالية، وأيضاً التخلي عن الخطة المتعلقة بتقليل إستخدام المبيدات. كما أقرّت الجمعية الوطنية قانوناً زراعياً جديداً في آذار. ومع ذلك، شعر العديد من المزارعين بأنّ القانون لم يذهب بعيداً بما يكفي. وفي بداية شهر حزيران، أعلن المزارعون في جنوب غرب فرنسا عن «إغلاق تاريخي» على طول الحدود مع إسبانيا، مطالبين بدعم متجدد للقطاع الزراعي.
من هنا شكلت تخفيضات الميزانية تحدياً جدياً للرئيس إيمانويل ماكرون. فعلى الرغم من جذب مئات المليارات من التزامات الإستثمار من الشركات المتعددة الجنسيات في السنوات الأخيرة، وتشمل إنشاء أربعة مصانع ضخمة لبطاريات السيارات الكهربائية في شمال فرنسا، وتعزيز صناعة الأدوية باستثمارات جديدة، من فايزر وكذلك نوفو نورديسك، غير أنّ التباطؤ ما زال ملموساً، حيث ارتفعت البطالة، مع تقليص المصنعين للإنتاج وتباطؤ الصادرات. كما خفّض المستهلكون، الحذرون من التضخّم المرتفع، الإنفاق، وهو محرك رئيسي للنمو.