ليست الحقيقة أولويّة

ليست الحقيقة أولويّة

  • ٢٥ حزيران ٢٠٢٤
  • جورج طوق

يبقى مطار البلد الوحيد، قِبلة أملٍ وحيدةٍ لحلم الرحيل عن جحيم البلد.

في أواخر العام ٢٠٠٢، وقبل أشهرٍ قليلةٍ على اندلاع حرب "الصدمة والرُعب" الأميركيّة على العراق، احتلّت "مانشيت"، تدعم رواية استحواذ نظام صدّام على أسلحة الدمار الشامل، الصفحة الرئيسيّة لصحيفة "نيويورك تايمز" واسعة الإنتشار. الرواية كانت قابلةً للتصديق، رغم ثبوت عبثيّتها لاحقًا. لم تعترف الصحيفة، بعد أكثر من عقدين على إشاعتها، بخطيئة نشر أخبارٍ مغلوطة، أو على الأقل، بهفوة وقوعها في شرك المصادر غير الموثوقة. ليست الحقيقة أولويّةً. المُراد تحقّق. فالحرب حصلت وحصدت وانتهت. الأحداث التي تلت حريق "الرايخستاغ"، قبيل الحرب العالميّة الثانية، هي أهمّ ، بكثير، من الحقيقة التي سبقته. غُرفٌ سوداء نَسجَت، ووسائلُ إعلامٍ كتبَت، فكان للنازيّين السُلَّمُ الذي كان: أحكامٌ فإحكامٌ فملحمةٌ كونيّةٌ حصدت ملايين الأرواح وغيّرت وجه المعمورة إلى الأبد. لا يهمّ من أحرق ذاك المبنى الجميل. فالمهم هو، فقط، أن تكون الرواية قابلةً للتصديق. للمُدمن، عمومًا، ألف حِجّةٍ وحِجّة، وإدمان الدماء والدمار ليس استثناءً.

"ما كُتب قد كُتب"
من لحظة نشر مقال تخزين لوازم حربٍ في مطار بيروت، في صحيفة التلغراف البريطانيّة، غرق اللبنانيّون في بحرِ تحليلاتِ الخبر. هل هو صحيح؟ هل، فعلًا، يُخزّن الحزب الأصفر صواريخَ ومواد خطرة في مطار البلد الوحيد؟ تُرى، هل مصادر الكَتبة موثوقة؟ في منطق الحرب، لا يبدو موقع المطار مناسبًا للمَهمّة، إذ ليس إمداد خطوط الحرب سهلًا، ولا آمنًا، من المطار إلى الجبهة الحدوديّة، لا سيّما، عند التهاب المواجهة. لا يبدو هدفُ المقال سبقًا صحفيًّا. فالنهم إلى السَبق لا يقبل غياب إسم السَبّاق. لكن، في البداية، الحزب بلا ضوابط ولا سقوف. الحدود مباحةٌ له والمساحة. الحكومة والبرلمان في قبضته والمرفأ والمطار أيضًا. فالرواية تصديقها شديد القبول. يبقى السؤال: لما كُتب المقال؟ ليست مصداقيّة المصادر جوهريّةً ولا صحّة الخبر. قد لا يكون الهدف منه أكثر من تمهيدٍ لفعلةٍ سوداء ما. حجّةٌ إضافيّةٌ  في حشد التأييد للمدمن الدمويّ، على غرار رواية الأطفال الأربعين مقطوعي الرأس، عقب طوفان السابع من تشرين. تنقّلت كذبة المذبحة تلك بين وسائل إعلامٍ لا تُحصى، ورَسيت على لسان سيّد البيت الأبيض. في عالم المُدمن، ما كُتِب قد كُتب.

"آخر أبواب الأمل"
حَظِيَت سطور "التلغراف" باهتمامٍ لبنانيٍّ مُفرطٍ، قارع انشغالنا بكأس الأمم الأوروبيّة. رغم أنّ احتماليّة الحرب المدمرة تعلو، منذ شهورٍ عدّة، احتماليّة فوز المنتخب الإسبانيّ بالمنازلة الكرويّة الحاليّة، إلّا أنّ تصاعد التهديد على مطار بيروت أثار موجة قلقٍ وترقّبٍ عارمةً عند المواطنين. قبل أيّام، سخروا من تهديد وزير الطاقة الإسرائيلي بقصف المُنشآت المنتجة للكهرباء، وقبلها، من توّعد العدوّ بإعادة لبنان مئة عامٍ إلى الخلف. لم يلتفت أيّ لبنانيٍ إلى الخلف. حتّى رقصة المسيّرات، في سمائنا، لم تفلح في إلهائنا عن رقصات السهرات الموسيقيّة فوق أسطح بيروت. رغم انسداد الأفق أمامنا، يبقى مطار البلد الوحيد قِبلة أملٍ وحيدةٍ لحلم الرحيل عن جحيم البلد. فالخطر، هذه المرَّة، يطال آخر أبواب الأمل. فعسّى ألّا يلي المقال المشؤوم هذا ما تلا حريق "الرايخستاغ".