مجدل شمس والعشاء الأخير

مجدل شمس والعشاء الأخير

  • ٣٠ تموز ٢٠٢٤
  • جورج طوق

إنسوا معاني لوحة اللاشيء الفرنسيّة وتشابهها الوهمي مع لوحة العشاء الأخير. نحن بين حجريّ مطحنة قاسية، ولا نعلم أيٌّ منّا قد يتناول، اليوم، عشاءه الأخير.

في عصر التواصل والسرعة والتعليم والمعلومات والتطوّر، وفي خِضَم مطحنةٍ بشريّة تدور، بلا هوادة، منذ السابع من أكتوبر، هناك من تراءى لهم تشابهٌ بين فوضى فُرَش التبرُّج وهزالة الإبتكار، في مطلع الألعاب الأولمبيّة، وبين رقصات ريشة ليوناردو داڤنشي وتناغم ألوانها، في مطلع عصر النهضة. يُخيَّل للمرء أنّ من لم تهزّه أشلاء الأطفال بين حجريّ مطحنة، لن يلحظ إيحاءاتٍ بين صورتين تفصل بينهما خمسة قرون. رغم التطوّر الطبّيّ الهائل في عالم الحساسيّة، إلّا أنّها، عند أهل العقائد السماويّة، ما زالت مبهمةً وبلا علاج.

«جوار العُظماء»
لا سرعةَ في نهضة النابغة الفلورنسيّ ولا ذكاءَ رقميًّا، بل روحٌ إنسانيّةٌ ومواهبَ استثنائيّة وفضولٌ فكريّ ومقدرةٌ ذهنيّة لا متناهية داخل جمجمة فنّان. الإقتباس عن فنّ داڤنشي ترفٌ لا يملُكه، بخفّةٍ، أيٌّ كان، لكنّ جوار العظماء هو، دائمًا، أمرٌ جلل. إنّها من سخرية القدر أن تثير لوحةٌ لسارية عصر النهضة، داڤنشي، كلّ هذا الصخب في هذا الوقت بالذات من الحربين الدمويّة والأولمبيّة. فالرجل خلق، إلى جانب الإبتكار في الرسم والطب، فكرة المدّرعة والغواصة والطوافة والبندقيّة الرشّاشة. عقلٌ سَبّاق في أدوات الحرب والفنون والطبّ في آن. سخّر جزءًا من مواهبه في وسائل الموت لتمويل تفرّغه لفنون الحياة. لطالما كانت وفرة الإهتمام والمال في القتل والحرب أعلى من أيّ جانب آخر.

« اترك كلّ شيء واتبع لوحة اللاشيء»
لم يكن داڤنشي راضيًا عن نتاجه. وهو يرى في عدم وصوله إلى المستوى اللازم مهانةً للبشر والله. ماذا يبقى لعشرات المصمّمين والمنتجين خلف الإفراز المسطّح في الحفل الأولمبيّ الباريسيّ؟ انتقد المسيحيّون، لا سيّما في لبنان، العمل بحدّةٍ. وعند أشتداد الحاجة إلى مواجهة لوحة الدماء القريبة عن البلد بعد حادثة مجدل شمس، تركوا كلّ شيءٍ لمواجهة لوحة اللاشيء البعيدة. المهانة الأولمبيّة، التّي يُفترض أن تطال رسّام العشاء الأخير، أصابت المسيحيّين. الإهانة للرسّام لا للمرسوم، لكنّ العقل الممتلئ لا يهينه الفارغ. في بضعة أيّامٍ فقط، أُزيلت لوحة الإفتتاح تلك عن وسائل الإعلام واعتذر عنها المنظّمون، فيما نتاج ليوناردو لا يزال، بعد خمسة قرونٍ على ولادته، مزدهرًا وثابتًا.

«ما قيمة القول إن لم نفعل؟»
باركوا لاعنيكم، قال الناصريّ قبل ألفيّتين. وبعده بألفٍ وخمسمئة عام، قال داڤنشي الفلورنسيّ: ما قيمة القول إن لم نفعل؟ التطوّر الإنسانيّ سلسلةٌ لا انقطاع فيها. عقولٌ عظيمة تخلق كلمة وأخرى تشحذها وتلد أخرى. هكذا يُصاغ التاريخ والحاضر والمستقبل. لا خلاص دون سياق تاريخيّ ولا مستقبل. لحسن حظّ الإنسانيّة، وُلد داڤنشي في عزّ اشتداد ظلمة العصور الوسطى، وساهم في إنارتها. النهضة هي إنارة الظلام والإنحطاط. عند اشتداد المقاصل في فرنسا، خلق الفرنسيّون ثورتهم. واليوم هم وحدهم مسؤولون عمّا يصيبهم من انحطاط. ليس هذا شأننا في لبنان. أتركوا نهضة داڤنشي بسلام وابحثوا عن نهضتكم في عصر الظلام اللبنانيّ هذا. لا تباركوا لاعنيكم، لكن، على الأقل، تناسوا أمرهم قليلًا. إنسوا معاني لوحة اللاشيء الفرنسيّة وتشابهها الوهمي مع لوحة العشاء الأخير. نحن بين حجريّ مطحنة قاسية، ولا نعلم أيٌّ منّا قد يتناول، اليوم، عشاءه الأخير.