بين ثنايا الحداد المُلوّن: رحلة البحث عن الإنتماء

بين ثنايا الحداد المُلوّن: رحلة البحث عن الإنتماء

  • ٢٥ آب ٢٠٢٤

رواية «ثوب حداد ملّون» هي إحدى أعمال الكاتب سليم بطي، تتناول القضايا الإجتماعية والإنسانية بعمق وبرؤية متميزة. يقدم بطي قراءة متعمقة للحالة الإنسانية والعواطف التي يمرّ بها الفرد في مسارات حياته العديدة، الحرب الأهلية وتداعياتها على الأفراد والضحايا، والإنتماءات المتعددة والملتبسة.

كتبت تريزيا الدريبي

الحرب التي جرّدت جيوفاني من ثوب الحرية و ألبسته ثوب حداد ملوّن، لقد فقد والديه وأخيه، و تغرّبت أخته لميس عن بلدها، فلم يبقَ أمامه سوى العتب على الوطن قائلاً: «أوطاننا أنانيّة، تتبرأ منّا إن فضّلنا العيش في غيرها، على الموت في سبيلها.» 


إبتكر سليم بطي مفهوماً خاصاً للإنتماء، فجعله إنتماءً لذكرى محفورة في الوجدان لا لمنزل أو وطن. ويسلّط «ثوب حداد ملوّن» الضوء على رحلة البطل في البحث عن هذا الإنتماء الحقيقيّ، بعيداً من قيود المكان والزمان.

فتُقدّم الرواية قراءة مُعمّقة للحالة الإنسانية في خضمّ صراعاتها، مُركّزةً على تداعيات الحرب الأهلية على الأفراد. و«ثوب الحداد الملوّن»، هو رمزٍ مُبتكر، لرفض بطل الرواية الحزن المفروض عليه، وسعيه للانعتاق من قيود الماضي الأليم. ورفض العيش على صفحات غبار الذكريات متمسكاً بخيوط الأمل، «النظرة من عينيك تخلق لي وطناً، شَعبه صوتك، حدوده ظلّك، أمنه شهيقك، وأمانه زفيرك» ليخلق وطناً من رحم الحرب والمأساة.

تتداخل في الرواية المشاعر العميقة مع مواقف حياتية مختلفة، كاشفةً عن صراع البطل لتحديد هويته وسط ضغوط العائلة، والمجتمع، والدين.

فقد كان طائراً يتعلّم التحليق وسط الحرب «أنا طيرٌ، دهَسته دبابة... فغرّد بين جنازيرها.» وتُطرح أسئلة جوهرية حيال تأثير الآخر على تشكيل الذات، وكيفية التصالح مع فقدان الأحبة والبحث عن معنى للحياة وسط الخسارة، « قلوب خزّنت الأنين...وباحت». 

كان جيوفاني يبحث خلف ستار الحياة عن سبب الموت  حيث كل غياب لأحبة له يفقده جزءًا من ذاته  «أنتظر دائماً أن يموت من أحب  هل حان دوري؟».
تساؤلاته تضيع في صدى الصمت المرعب حيث لا جواب يُجسّد «ثوب حداد مُلوّن» رفض البطل لموت الأبرياء ورغبته في التحرّر من الحزن المُفروض. ويُشكّل محيط البطل وثقافته عوامل أساسية في تشكيل هويته، وتُظهر الرواية كيف تؤثّر التجارب المُرّة على نفسيّة الفرد، ودافعه للبحث عن ذاته. لقد ماتت طفولة جيوفاني قبل أن تولد « كبرنا في وقتٍ كان كلّ شيء حولنا يصغر..»


هذه هي حكاية جيوفاني... حكاية عائلة صغيرة إنتهكت الحرب تاريخها الشخصي من دون رحمة.
«ثوب حداد ملوّن» تُلامس تحديات الفرد في ظلّ التغيُّرات العالمية، وتُسلّط الضوء على التوتّر بين التقاليد والحداثة، بين الذاكرة والحاضر، فالماضي الذي عاشه جيوفاني في الرواية ما زال حاضراً في يومياتي كفرد عايش إنفجار مرفأ بيروت، وتناثر زجاجها على روحه قبل جسده، وما زال حاضراً في المجازر والإبادات التي ترافق يومياتنا من بعيد ، وفي صراع الهويات ، حيث الانتماء يتحوّل إلى هويّة ويُصبح قاتلًا للفرد والإنسانيّة معًا، بدل أن يكون منصّة للتواصل مع الآخرين الذين يشتركون في هذا الإنتماء، والذين هم خارجه، على أساس الخصوصيّة المنفتحة على شمولية الشعور الإنساني والقيم الجامعة، والمحقّقة للخير والحق.

 يقول أمين معلوف إنّه يمكن لكلمة هوية أن تكون «صديق مزيّف». فهي برأيه «تبدأ بالكشف عن تطلّع مشروع، وتصبح فجأة أداة حرب… نفضح الظلم وندافع عن شعب يعاني، ونجد أنفسنا في الغداة شركاء في مذبحة».