الحمّص: أيقونة ثقافية

الحمّص: أيقونة ثقافية

  • ٠٥ أيلول ٢٠٢٤
  • سميرة طوق

رحلة إستكشاف عبر الزمن من الشرق إلى الغرب لتاريخ حبة متواضعة

من الممتع قراءة بحث معمق عن حبة الحمّص، لطالما إعتبرنا طبق الحمّص على المائدة هامشياً ومكملاً للأطباق الاساسية، ويذكّر بالتقشف وببساطة المأكل، وكم تكون الدهشة كبيرة عندما نسمع من غير اللبنانيين وعلى وجه الخصوص الغربيين مديحاً مطولاً «للحمص بطحينة»،  وموخرآً في زمن الأزمة هو دليل على الفقر و«الإعاشات» الشائعة في السنوات الأخيرة  التي تستهدف العائلات وكل مَن يعاني من صعوبات معيشية بفعل الأزمة الاقتصادية، والمساعدات - «الإعاشات» التي  تتضمن دائماً «كيلو حمص» الى جانب أنواع أخرى من الحبوب، غالباً ما تترك إنطباعاً لدى متلقيها بمساعدات لزوم ما لا يلزم واستعراض شعبوي من هنا وهناك لتعزيز الصورة العامة لمقدمها، ولا فائدة منها أكان على مستوى الحاجة أو الغذاء. كما هو محط كلام في الأمثال الشعبية للسخرية من السخيف «عقلو أزغر من حبة الحمص» وعن الغرور«بياكل قضامة وبيحكي باللاهوت» والمضطرب «متل الحمص عالطبل»، وعن قصير القامة «بيفرط قلب الحمص بشبيط» والثرثار«م بيتحمل حمصاية تحت لسانو».

ولكن للحمص  قصة أبعد من ذلك بكثير، في مؤلف شيق من ٢٢٢ صفحة ل روبير بستولفي وفؤاد مردم بك ، ترجمته ماري طوق  عن الفرنسية، ونشر ضمن مشروع «كلمة» للترجمة في مركز أبو ظبي للغة العربية ٢٠٢١ . يسرد رحلة الحمص عبر التاريخ، «برهاناً على أنّ لأبسط الأشياء التي نقع عليها في الحياة اليومية تاريخاً إجتماعياً وثقافياً حافلاً».وفي المقال بعض مما ورد عن تاريخ تلك الحبة الصغيرة.

مولده على ضفاف المتوسط
من المرجح أنّ قرنية الحمص أتت من شرق المتوسط يشير كاندول (١٧٧٨- ١٨٤١) عالم النبات السويسري أنّ أصناف الحمص الخمسة عشر يمكن أن تكون زراعتها بدأت في بلدان تقع بين اليونان وحملايا وتدعى الشرق.
وثمة كشفيات تشير الى أنّ الحمص كان مزروعاً في جنوب فرنسا منذ العصر الحجري، حيث عثر في كهف على بذور قديمة ترقى الى حوالي سنة ٦٨٠٠ ق.م..
ويعتقد أنّ كلمة القطاني التي ذكرها النبي أشعيا في الآية ٢٥ في العهد القديم تعني الحمص.وهناك إكتشاف أثري يعود الى العام ١٣٠٠ ق.م. عبارة عن إناء مليء بالحمص وجد داخل قبر في دير المدينة في صعيد مصر.
أما في حوض المتوسط، فزرعت في روما القديمة أنواع عديدة من الحمص،وإنّ الخطيب الروماني شيشرون يدين له بإسمه، لأنّ أفراد عائلته كانوا يتاجرون به.
وذكر الشاعر الروماني أوفيدس أنّ النساء كنّ في عيد الإلهة فينوس يقدمن إليها الزينة والأزهار ونوع من الحمص الأبيض يدعى حمص كولومب.

«رحلة الحمص»

«هل ولد في الأناضول أو قبرص أو في جنوب فرنسا؟ المهم أنّ زراعته سرعان ما إنتشرت فاجتاج معظم بلدان حوض المتوسط، فالشرق الأدنى، فإيران ثمّ أفغانستان وشبه القارة الهندية»…أما في أفريقيا يشير العالم الجغرافي ياقوت بن عبدالله الحموي في القرن الثالث عشر إلى أنّ الحمص كان من الطعام الأساسي في غانا وجنوبها. وفي الهند تبوأ صدارة البقوليات. وشارلمان ملك الفرنجة (٧٦٨-٨٠٠ م.) أصدر مرسوماً ملكياً يأمر فيه بزراعة الحمص في جميع أراضي الإمبراطورية، وحمله كريستوف كولومبوس الى الأميركيتين، ونسب إليه الكثير من الأسماء بعضها شبه خيالي وبعضها الآخر واقعي ولا شك في أنّ الكلمة الانجليزية  chickpea نحتت من الفرنسية chich وقد ظهرت للمرة الأولى في ترجمة للكتاب المقدس التي قام بها جون ويكليف(١٣٢٤- ١٣٨٤ أول من ترجم الكتاب المقدس من الفولجاتا اللاتينية الى الإنكليزية الدارجة)، ثم تحولت هذه الكلمة إلى chiche  في القرن السادس عشر. فضلاً عن تعدّد الأسماء التي تختلف إختلافاً بيناً في لفظها وفي حقلها الدلالي في البلدان الأخرى.

يذكر أوجين رولان(١٨٦٤-١٩٠٩) وهو عالم أعراق فرنسي وباحث في التقاليد والفنون الشعبيّة في كتابه «النباتات الشعبية»، أكثر من ثمانين تسمية لقرنية الحمص في لهجات «أويل» (لاتينية عامية) في جنوب فرنسا. «وهكذا يدعونا الحمص الى رحلة ألسنية ممتعة بين مدن البلدان وقراها».كما أنّ شكل حبة الحمّص المستديرة  المفلطحة والمنخفسة وجوانبها الناتئة ساهم في أسمائها العلمية والشعبية العديدة. مثلاً في مصر الفرعونية قد سمي «هرباك»، وتعني كلمة باك أو بيك الصقر، رمز «حورس» الذي كان إسمه «هير»،«وربما كان هذا ما دفع بعض الأدباء إلى إختلاق صور رمزية جسورة بعض الشيء مثال رواية «ريشا شوالر دو لوبيتز» (١٨٦٤-١٩٠٩) بعنوان «هرباك وجه حيّ لمصر القديمة»، عن مراهق يدعى «حمّص» إستطاع في نهاية رحلته الطويلة إكتناه أسرار الحكمة».
وفي الحالات الفلاحية الشعبية تسميات طريفة منها على سبيل المثال في إسبانيا حيث يقال للحمص «أنف الأرملة» حيناً و«مؤخرة الخياطة» حيناً آخر.

فضائل من الزمن القديم
إنّ أغلب النباتات المزروعة قبل التفنّن في طبخها كان ينظر الى قيمتها الغذائية والصحية. والحمص منذ القرن الرابع ق.م. نال تقديراً في هذا الصدد. أبوقراط إمتدحه وألمح أنّه مدرّ للبول ومريح للأحشاء وطار للديدان ومذيب للحصى وغيرها…وبعده أسهب ديسقوريدس في التعريف بخصائص الحمّص في كتابه Materia media وهو طبيب يوناني ولد في القرن الأول بعد الميلاد، وعنه أخذ الكثيرون في أوروبا وفي العالم العربي حتى القرن الثامن عشر حين أخضع لنقد علميّ جديّ. 

وعن مفعوله الشفائي أصرّ خلفاء ديسقوريدس من أمثال إبن سينا والرازي وغيرهم على هذه الخصائص العلاجية. ومن الأخبار الطريفة أنّ ليوناردو دافتشي كان مقتنعاً بهذه الخصائص بناء على ملاحظاته في الطبخ وفقاً لوثيقة محفوظة في متحف الإرميتاج في سان بطرسبورغ. ولن يُكتفى بذلك فقد ذكر إبن البيطار (١١٧٩-١٢٤٨م) عالم النبات العربي فضل الحمّص على الرجال لأنّه محفز للشهوة الجنسية ملخصاً مساهمته في ديمومة النسل البشري.وفي السياق نفسه ينصح الشيخ النفراوي التونسي(القرن١٥) في كتابه «الروض العاطر» بشراب البصل والعسل مذاباً في نقيع الحمص..

ومن العادات العلاجية الشعبية أيضاً المرتبطة بالحمّص،كان السوريون حتى عهد قريب يستعملون الحمص للعلاج بالكي، بعد كي الجلد يضعون حبة حمص حتى لا يختم الحرق ،والدم حكماً سينبجس قاذفاً بالحمصة، مما يفسر المثل الشعبي «بينط متل حمصة الكي» الذي يقال عن الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم.. كما استخدم وصفة لتبديد الأفكار السوداء بحسب كتاب «الزراعة النبطية»الذي نقله الى العربية إبن وحشية (القرن العاشر) يوضع منه خارجاً حين يكون القمر هلالاً وينقع قبل شروق الشمس فمن يشرب منه يشفى من كآبته..
بطلت حكايات الحمّص كما بطل غيرها من وصفات الطب الشعبي حيث تتداخل جلياً  مع السحرفي المعتقدات. لكن مازالت الحبة الصغيرة جزءا من ثقافة واسعة.

بروليتاريا القرنيات

يتابع الباحثان التنويه بفضل الحمّص على المطابخ التي استضافته شرقاً وغرباً، رغم أنّ سمعته غالباً ما ارتبطت في المتوسط وفي الشرق الأدنى بالتقشف والفقر وشظف العيش، وأحياناً بالنكبات والمحن. ما عدا أمثلة السخرية والبلاهة «هذا في رأسه حمصة».وكان المجانين في المسيرات الكرنفالية في القرون الوسطى يجلجلون حبات الحمص في مثانات الخنازير،وفي مرسيليا في عيد الشعانين كان سكان المدينة يسخرون من الفلاحين الآتين من الأرياف بأنّهم سيأكلون ما طاب لهم من الحمّص وبقيت هذه العادة شائعة حتى القرن التاسع عشر. وحديثاً  أعيد إحياء عيد الحمّص منذ عقدين من الزمن في منطقة «مونتارين- سان ميديه» جنوب فرنسا، إحتفاء بالنبتة المتوسطية الصغيرة.

مهرجان الحمص «مونتارين-سان ميديي» جنوب فرنسا

في اليونان القديمة كان أفلاطون يعزو تفشي الفساد الى المآدب البازخة، لذلك دعا الى نظام غذائي يقوم على الحمّص. وفي روما، كان غذاء شعبياً رخيصاً لا يقربه الحكام والمترفون. ولم يُذكر في الأدب إلا في معرض السخرية، كما في إحدى قصائد هوراس(٦٥-٨ ق.م.) حيث لا يجِد البطل عند عودته الى منزله بعد عروض السيرك الباذخة إلا صحناً من الحمّص. وفي العالم العربي يؤكد إبن سيرين مفسر الأحلام أنّ رؤية الحمّص في المنام تعني الحزن والاضطراب. وقد تمّ تهميشه عند إكتشاف أميركا حيث ذاع صيت الفاصولياء المكسيكية في القرن السابع عشر. والدليل الأبلغ عن إقتران الحمّص بالفقر لوحة «آكلو الحبوب» للرسام جورج دولاتور(١٥٩٣- ١٦٥٢) التي تمثل رجل وامرأة فقيران يتقاسمان صحناً من الحمص. وفي العصر الحديث كتب جان بول سارتر لوصف تبدّل الحال من الوفرة الى العوز«اليوم شريحة من لحم البقر، وغداً حمّص». 

 

لوحة «آكلو الحمص» جورج دو لاتور

علاقة الحمّص بالمقدس
«إن كنو ع حساب الحمّص متكلين ما فيش عيد يا ولادي المباركين» مثل من جبل لبنان ، وقصته: أنّ كاهناً كان يسكن في قرية بعيدة،وكان ضعيف الذاكرة حتى أنّه ينسى تاريخ الأعياد لذا قرر بداية الصوم أن يضع في جيبه خمسين حبة حمص وأن يأكل كل يوم واحدة فلا يغيب عنه حلول عيد الفصح، إلا أنّ مزّاحاً وضع في جيبه المزيد فواصل صيامه في حين عيّد أهل القرية،الى أن هتف قائلاً «كنو عالحمص…» ولمارون عبود قصة مشابهة في كتابه «حبر على ورق» عنوانها «حساب الحمص» ومنها المثل «على حساب الحمص العيد بعيد». 
وفي العديد من بلدان حوض المتوسط جرت العادة أن يخصص المسيحيون، أياماً لتناول الحمص في أزمنة الصوم. ودرجت العادة قديماً في مدينة نيس الفرنسية على تناول الحمّص في أربعاء الرماد الذي يعادل إثنين الرماد في الكنائس الشرقية وهو أول يوم من الصوم الكبير. والصلة بين الحمّص وطقوس الحداد قديمة العهد، إذ كان الاغريق يفضلون البقوليات في المآدب الجنائزية. وكذلك في كورسيكا كان الحمّص من مستلزمات وجبة العشاء ليلة خميس الأسرار. وكان ثمّة تقليد في مرسيليا ومونبلييه، وهو تناول الحمّص في يوم الشعانين، للإحتفال بدخول المسيح الى القدس. والتقدير أنّ هذه العادة كانت مرتبطة بحدث تاريخي يعود الى شعانين ١٤١٨ حين ضرب الجوع مدينة مرسيليا، وكان أن قذفت العاصفة الى المرفأ بست سفن محملة  بأكياس حمص فوزعت على الشعب، ومذاك أصبح تقليداً إمتناناً لهذه النعمة الإلهية.

هل إكتسب الحمّص بعض الإحترام بفضل تاريخه، أم لأنّه إستطاع عبر العصور،أن يسعد البشر بمساهماته في فن الطبخ ومتع العيش وهي الأكثر واقعية في إعطائه مكانة عالية بين الأغذية. 
وبما أنّ الحمّص لنا فيه حصة وافرة على موائدنا اللبنانية، إنّ أفضل طريقة للتعرّف الى ما هو حقاً لبنان هو عدم التركيز على الصراعات وتضخيم الأصوات المتطرفة،  إنّما على المرء تناول الطعام على موائده، التي ترحب بحرارة وانفتاح من الجميع وتساعد على خلق تجارب مشتركة مبنية على الإحترام وحسن الضيافة، والكرم، والشعور بالفرح، والإحتفال بأذواق الجميع وليس هناك من شك في أنّ الطعام اللذيذ لديه القدرة على الجمع والتلاقي.