إيديولوجيات عمياء وواقع واحد... شرق أوسط مدمَّر!

إيديولوجيات عمياء وواقع واحد... شرق أوسط مدمَّر!

  • ٠٧ تشرين الأول ٢٠٢٤

في خضم صراعات الشرق الأوسط، تتشابك المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، مما يحوّل المنطقة إلى ساحة للصراع بين القوى الكبرى.

كتب كمال دمج

يَحور الشرق الأوسط ويدور بين أيدي جماعات متحكِّمين بقراره ليعود دائماً، بحكم طبيعة موقعه في الجغرافيا العالمية كمركزية متوسطية تتلاقى فيها وتمرُّ بها جميع المصالح العالمية، وكنقطة محوريَّة تتفرَّد بغالبية ديموغرافية دينية وطائفية تمتلك الكمَّ الأعظم من مخزون الثروات في العالم، إلى الإنغماس في صراعات جيوسياسية تصبُّ جميعها في ساحاته المتناغمة على لهيب وترٍ واحد، يتولَّى عزفه التلاقي المستمرّ بين مصالح«الشيطان الأكبر» و «محور الشرِّ» تحت سقف مركزية -الكيان الإسرائيلي الغاصب- ، ليبقى هذا الشرق محروماً دائماً من نعمة الإستقرار أو التطلُّع نحو غدٍ أفضل.


فهل تحوَّل الصراع الناجم عن عمليَّة«طوفان الأقصى» (٧ تشرين الأول / أوكتوبر ٢٠٢٣) في منطقة الشرق الأوسط من جيوسياسي إلى صراع بين إيديولوجيات؟

لو أردنا، في عرض المسار الذي أودى إلى تنفيذ هجوم السابع من تشرين، الإبتعاد قليلاً عن منطق الأقليات والأكثريات الدينية غير المستحسن لدى البعض، بالرغم من كونه سبباً أساسياً لتمركز الصراعات في هذه البقعة من العالم، فإنَّ الأسباب الجيوسياسية والإقتصادية التي أدَّت إلى إشتعال هذه النيران أساسية تتفرَّع من الصراع على النفوذ في المنطقة بين «قطبي» العالم، الصين والولايات المتحدة الأميركية، والتي تلعب فيها إيران ووكلائها دور الخلايا السرطانية التي تنمو على عجل وبصمت قبل تسديد الضربة القاضية.

علاقة «طوفان الأقصى» بالممر الإقتصادي بين الهند وأوروبا

لم يكن «طوفان حماس» وليد لحظته سياسياً، أي لم يكن قراراً فردياً أو نتاج مخطط قائم على فكرة القضية والتحرير، إنّما نتاج عوامل عديدة ترتبط بمحاولة إيران فرض نفسها لاعباً أساسياً وعنصراً فاعلاً في المعادلات التي كانت ستُرسي وَصْلاً إقتصادياً وسياسياً بين شرق العالم وغربه مروراً بالخليج العربي دون أيِّ اعتبار لوجود طهران، بعد أنْ كانت قد نامت على حرير في علاقتها مع إدارة بايدن، حيث استماتَتْ للعودة إلى الإتفاق النووي. وبعد أن لعبت دوراً أساسياً عبر وكيلها «حزب اللّٰه» في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وسط استعجال الولايات المتحدة لإنجازه حينها لتخطي الأزمة الأوروبية جراء الغزو الروسي لأوكرانيا.
لقد فردت إيران جناحيها وارتاحت عند تحرّرها من بعض القيود الإقليمية المفروضة عليها، بعد تسوية علاقتها مع المملكة العربية السعودية باتفاق بينهما في آذار / مارس ٢٠٢٣ برعاية الرئيس الصيني في بكين، حيث امتدَّت مفاعيل هذا الإتفاق على العلاقات الخليجية مع نظام الأسد وعودة المقعد السوري إلى جامعة الدول العربية. إلاَّ أنَّ صعقة هذا الإتفاق التي أصابت في الصميم إدارة بايدن، ولم تتأخَّر آثارها حتى ظهرت في أيلول / سبتمبر ٢٠٢٣ من خلال إتفاق مجموعة العشرين في قمة نيودلهي على إنشاء ممر إقتصادي بين الهند وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، حيث يكون محور الوصل بين الشرق والغرب، السعودية والإمارات وإسرائيل والتي منها يكمل الممر مساره في البحر المتوسط نحو أوروبا، وتحييد أيّ دور لإيران في هذه السلسلة، وتوجيه ضربة مباشرة لمخطط طريق الحرير الصيني حيث أنَّ الممر الإقتصادي الجديد وما يشمله من مجالات تعاون يفوقه أهميَّة بكثير.

لذا ما كان هجوم «٧ تشرين» ليكون ذات بعد إقليمي ودولي خطير، وما كان ليرتبط لهذا المدى بالممر الإقتصادي الجديد لو لم يترافق مع نشاط عسكري متناغم ومستمرّ لجماعة الحوثي في البحر الأحمر انطلاقاً من اليمن ضد الملاحة الدولية. إنَّ جبهة البحر الأحمر ليست إلاَّ وسيلة لقطع هذا الممر الذي كان يتطلب نجاحه بالدرجة الأولى أجواء من الهدوء في الشرق الأوسط، والتي حاولت السعودية إرساءها عبر إتفاق بكين، على محورين أساسيين، اليمن وسوريا. إنَّ هذه الجبهة تتفوَّق في أهميتها الإستراتيجية حتَّى على جبهة جنوب لبنان، وهذا ما استدعى منذ اللحظة الأولى، تشكيل حلف أميركي بريطاني لصدِّ الهجمات على السفن التجارية، وما استدعى بالدرجة الأولى، استهداف ميناء الحديدة بالشكل الذي أتى عليه.

وقد عبَّر الأمين العام لـ «حزب الله» قبل اغتياله بفترة قصيرة، في خطاب الإحتفال التأبيني للقيادي فؤاد شكر عن الهدف الأساسي لإيران من هذه الحرب بالقول: «إنّ الهاجس اليوم هو تسيُّد إسرائيل على المنطقة... وليس هدف هذه المعركة إزالة إسرائيل من الوجود إنّما منعها من الإنتصار». وهذا يشير حتماً إلى الغطرسة الإيرانية في جعل شعوب المنطقة وقوداً لقطار مصالحها، في حين كان يعلم «نصر الله» جيداً أنَّ غالبية الشعوب العربية ترفض التدخل الإيراني في المنطقة بقدر رفضها لوجود إسرائيل.

المظلومية كوسيلة لتخصيب التطرُّف عبر «طوفان الأقصى»

لم يقوَ الدافع الجيوسياسي الذي أودى إلى اندلاع حريق ما بعد «٧ تشرين» إلى إخفاء الصراع الباطني بين المجموعات «المستوطنة» في الشرق الأوسط، صراع «الهويات» المتطرِّفة التي تسعى عند كُلِّ حدٍّ إلى ضرب وإضعاف بعضها البعض تحت مسمَّى صدُّ الإستضعاف ورفض المظلومية وتحصين الموقع والحفاظ على الوجود وذلك عبر تعميم السردية الدينية المدججة بعتاد وفير وبِعِدادٍ مؤدلَج.

إنَّ ما جاء به هجوم «٧ تشرين» من تجسيد صريح للهمجية الإيرانية، وما رافقه من «بروباغندا»، وما لحق به من جبهات «إسناد»، بهذا الحجم الدعائي المهول الذي صوَّر أذرع إيران في الشرق الأوسط على أنَّها قوى تضاهي بجهوزيتها أكبر جيوش المنطقة، وأعطى المبرر الأبرز لإسرائيل لإخراج التطورات الميدانية من نطاق القرار السياسي إلى نطاق رسم الخرائط بالدم والنار واعتبار الحرب القائمة وجودية ومعركة تقرير مصير. فقد افتقدت طاولة الحوار، بغياب هيبة «قائد الإيقاع» (الإدارة الأميركية)، لرؤوس سياسية تفاوض وترسم الخطوط الحمراء، وتركت الحسم للميدان على كافة الجبهات دون أن تولي اهتماماً لأكوام الضحايا التي يعتبر إبعادها «إنجازا» لـ«جمع الأقليات» في إطار السعي لِلَجْم «الأكثريّة الواحدة» في المنطقة.
إنَّ ما تفرَّع عن هذا الهجوم من جبهات انضوت تحت لواء طهران في كافَّة شؤونها والتي اتخذت مساراً تصاعدياً في لبنان خاصة، جاء انطلاقاً مما أرساه النظام الإيراني من إيديولوجيا «خمينية» - حتَّى لا نقول «مهدوية» ولكي لا نشمل كل الطائفة الشيعية - ألقت بلهيب عقائدها السياسية، وتطلعاتها نحو الهيمنة الفكرية على مجتمعات دول الهلال الخصيب بدءً بالعراق الحشد الشعبي مروراً بسوريا الأسد وصولاً إلى جنوب «الثنائي» حزب الله وحركة أمل في لبنان، تحت شعار شعبوي تعبوي، «شهداء على طريق القدس»، لا صلة حقيقية بينه وبين المسار العام لهذا المحور على مدار سنين مَضَتْ، كانت له اليد الطولى في قتل وتشريد الشعوب العربية بقدر ما ارتكبت إسرائيل في غزَّة وأكثر.

وعلى المسار نفسه، وبالرغم من صراع بينهما ما زال جمره تحت الرَّماد في أكثر من ساحة، تلاقت الإيديولوجيا «الإخوانية» المتمثِّلة بـ «حماس» في غزَّة و «الجماعة الإسلامية» في لبنان، مع الحلم الإيراني بالتسيُّد على منطقة الشرق الأوسط، وانضوت تحت هذا اللواء على قاعدة «أنا وخيي ع ابن عمّي وأنا وابن عمّي عالغريب»، في محاولة لاستعادة بعض سطوتها على الفكر انطلاقاً من عقيدتها بأنَّ مشكلة الإسلام تكمن في جهل المجتمع والعداء العالمي، وهذا ما تُرجِمَ منذ بداية الحرب بـ «هرطقات» إقتصادية ودينية دعائية وقودها المشاهد المأساوية والمعاناة الكارثية في غزَّة، والتي تحمل شعار تقويم مسار الشعوب باتجاه القضيَّة المركزية.

وفي المقلب الآخر برزت الإيديولوجيا «التلمودية» المتمثِّلة باليمين اليهودي المتطرف المتحكّم بالحكومة الإسرائيلية التي أدارت الحرب وفق نهج التطهير العرقي في غزَّة والضفَّة عبر كافة أساليب الإبادة الجماعية وتدمير كافة سبل الحياة التي خلَّفت حتَّى الآن الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين. فقد دعا اليمين المتطرف، منذ اليوم الأول، إلى تهجير الغزيين نحو سيناء، ومنهم من اقترح إلقاء قنبلة نووية على غزَّة لإبادتها، عدا عن الممارسات الإستيطانية وضمِّ الممتلكات في الضِّفة الغربية والدعوة لتهجير أهلها نحو الأردن، إضافة إلى إقرار الكنيست الإسرائيلي قانون يرفض قيام دولة فلسطينية بشكل مطلق.
وما بين صراع الإيديولوجيا «التلمودية» وحلف الإيديولوجيتين «الخمينية» و «الإخوانية»، يشهد الشرق الأوسط أحد أخطر الصراعات الدمويَّة التي ستساهم حتماً في تغيير المعادلات والقوى السياسية والعسكرية الموجودة، نظراً لعدم تكافؤ الصراع بين الإيديولوجيا والتكنولوجيا، حيث بدأت معالم هذا التغيير تظهر مع اغتيال الأمين العام لـ «حزب الله»السيد حسن نصرالله وما سبقه من خروقات واغتيالات حققتها إسرائيل على صعيد هيكلية الحزب ولوجستياته. وبدء التوغُّل البرِّي في الجنوب اللبناني، وما ارتكبته إيران من تَخَلٍّ في هذه اللحظات العصيبة لصالح «تآخيها» المستجد أو ربما المتجدد مع الولايات المتحدة. هذا كله في ظل ما يشهده لبنان من أخطر أزمة حكم ونظام، وأخطر انقسام سياسي في تاريخه الحديث، ينبع، إن أردنا الغوص في النوايا، من توجُّهات إيديولوجية أيضاً تخرج بمجملها عن فكرة لبنان الواحد.
فكيف سترتدُّ نتائج اليوم التالي لعمليَّة «طوفان الأقصى» على الصيغة اللبنانية، الأرض والنظام؟