إحموا إرث صور
إحموا إرث صور
صور التي تلفها النيران اليوم هي مدينة تروي قصة حضارات متعاقبة، تمتدّ جذورها التاريخية إلى آلاف السنين.
يَا صُوْر... حينَ نَزَلْنَا إليكِ انتزَعَتِ مِنْ حَنَاجِرِنَا الوَتَرَ الفلّاحيَّ، وَهَا نَحْنُ بِالكَلِمَاتِ الّتِي تَعَلَّمْنَاهَا مِنْكِ لَا نَسْتَطيعُ أنْ نَصِفَكِ.
لا نَصِفُكِ لأنَّكِ مَا زِلْتِ تَبْحَثِينَ في جِلْدِكِ
عَنْ فَمِكِ المُنْدَمِل.
وَلِأنَّكِ تَنْطقِينَ بِزَفِيرٍ سَاخِنٍ
عَلَى وُجُوهِ مُخَاطِبيكِ القَليلِينَ
لأنَّكِ بِلَا صَوْتٍ تَحكِّينَ يابِسَتَكِ وَرَمْلَكِ
وَتُلْقِينَ بِلَا تَحِيَّةٍ يَدَكِ
عَلَى شِمَالِ البَحْرِ
بهذه الكلمات وصف الشاعر عباس بيضون مدينة صور. فقد بدأت صور بقصيدة عبر الأسطورة، لتتحوّل إلى مدينة، ومن بعدها إلى متحف مفتوح يحاكي حضارات متعاقبة.
صور ورد ذكرها في الأساطير، ومنها، حوار نثري، يقال أنّه جرى بين نونوس (وهو شاعر يوناني من القرن الخامس الميلادي) وهيراكليس البطل الأسطوري(هرقل) حول مدينة صور، ويدور حول موضوعات مثل القوة، البطولة، والتجارة التي تتميّز بها صور.
وصور المدينة القديمة يعود تاريخها لأكثر من 4000 عام، وكانت ميناءً فينيقيًا هامًا ومركزًا صناعيًا. اشتهرت بصبغة الأرجوان المستخرجة من أصداف المحار، والتي أعطت الفينيقيين اسمهم. تتكون المدينة من جزئين: المركز التجاري على جزيرة، وصور القديمة (أوشو) على البر الرئيسي. حاصر نبوخذ نصر الثاني ملك بابل (605 -562 ق.م) صور لمدة 13 عامًا دون نجاح. ارتبطت صور بأساطير مثل مسقط رأس أوروبا وديدو، وزارها يسوع والقديس بولس. ويُزعم أنّ صور تأسست من قبل الإله ملقرت (أوشو) وهناك روايات أسطورية أخرى حول تأسيسها. وأدرجت صور موقعًا للتراث العالمي لليونسكو.
وارتبطت بأساطير مختلفة، منها تأسيسها من قبل الإله أوشو على جزيرة عائمة. ازدهرت صور في القرن العاشر قبل الميلاد بفضل تحالفها التجاري مع إسرائيل، والذي بدأ في عهد الملك داود واستمر مع ابنه سليمان. ساهم هذا التحالف في توسّع تجارة صور حتى وصلت إلى السودان والصومال وربما المحيط الهندي. وقد عززت ثورة دينية في عهد أبيبال وحيرام مكانة الإله ملقرت «ملك المدينة» على أحد الأزواج الإلهيين الأكثر شعبية من الديانة الفينيقية، بعل وعشتار.
على الرغم من أنّ الفرس عينوا حكامًا في المدن الفينيقية، إلا أنّهم احترموا تقاليدها الدينية والسياسية. سمح لصيدا بالاحتفاظ بملكها، الذي أصبح الجسر بين العالمين الزمني والسماوي. أدى ذلك إلى تعزيز الهوية الجماعية للصوريين، خاصة من خلال احتفالاتهم بمهرجان ملقرت.
عندما غزا الإسكندر العظيم المدينة عام 332 قبل الميلاد، طالبها بالاستسلام، لكن الصوريين رفضوا. بعد حصار استمر سبعة أشهر، استولى الإسكندر على المدينة وقتل أو باع 30,000 من سكانها. بعد ذلك، انتقل الناجون إلى قرطاج.
في الفترة التالية، تنافس جنرالات الإسكندر على السيطرة على صور حتى استولى عليها أنتيغونوس الأول. مع صعود روما، اتخذت المدينة شكلًا جديدًا بعد أن ضمها بومبي عام 64 قبل الميلاد. ازدهرت تحت الحكم الروماني، لكن تراجعت بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية.
سيطر الصليبيون المسيحيون على المدينة في عام 1124 بعد الحملة الصليبية الأولى وأصبحت مركزاً تجارياً مُهماً يربُط الغرب بالشرق عبر طريق الحرير. خلال هذا الوقت، وازدهرت كمقر لمطرانية الكنيسة وواحدة من أهم دفاعات مملكة القدس في الحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة.
وفي العام 1291 إستولى المماليك المسلمين، على صور وزال إنتاج الصبغة والملابس الأرجوانية حيث أصبحت الأصباغ الرخيصة متاحة. وفي عام 1516، أصبحت المدينة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي احتفظت بها حتى عام 1918 . بحلول هذا الوقت، اعتمد الصوريون إلى حد كبير على صيد الأسماك ، التي كانت دائماً جانباً مُهماً من اقتصادهم .
في الوقت الحاضر، تعتمد صور بشكل أساسي على السياحة للحفاظ على اقتصادها. بدأت الحفريات الأثرية هناك بشكل جدي في عام 1946 واستمرت بشكل متقطع منذ ذلك الحين. وقد أعاق الصراع المستمر في المنطقة طوال الجزء الأخير من القرن ال 20 حتى الوقت الحاضر العمل الأثري، وفي بعض الأحيان، توقف السياحة تماماً، مما ألحق الضرر بالاقتصاد ومنع المزيد من الاستكشاف لواحدة من أعظم مدن العصور القديمة.
ومن معالم صور الأثرية التي ما زالت شاهدة على تاريخها
القلعة البحرية، وقد بُنيت على أنقاض معبد قديم، وهي من أبرز المعالم السياحية.
المسرح الروماني، ويُظهر العمارة الرومانية التقليدية، ويستخدم في بعض الفعاليات الثقافية.
أطلال المعابد، إذ تحتوي المدينة على بقايا معابد قديمة، تعود إلى الفينيقيين والرومان.
السوق القديم، و يُعتبر مركز تاريخي يُظهر الحياة التجارية في صور القديمة.
الميناء الفينيقي، ما يعكس أهمية المدينة كمركز بحري وتجاري في العصور القديمة.
الأبراج والأسوار: تعكس تصميم المدينة الدفاعي وازدهار التجارة الفينيقية البحرية.
أجرِيت أول حفريات أثرية في صور تحت إشراف أرنست رينان في شهر آذار 1861، الذي سعى الى معرفة المزيد من المعلومات واكتشاف تاريخ هذه المدينة الغنية التي وصفها النبي حزقيال في أسفاره. بين العامين 1924 و1936، نفذ الطيار الفرنسي وعالم الآثار المستشرق أنطوان بوادوبار، عملية مسح كاملة من الجو وتحت الماء، وهذا المشروع كان الأول من نوعه في حقل علم الآثار. فأظهرت هذه الدراسات أنّ شواطئ المدينة محمية بحاجز من الشعاب المرجانية الطبيعية المعززة بالحواجز الاصطناعية ضد الأمواج ولحماية أرصفة المرافئ.
أما المعابد فأبرزها، المعبد الرئيسي للإله ملكارت، حسب ما ذكر علماء الآثار الذي بناه الملك حيرام الأول في القرن العاشر قبل الميلاد على أنقاض معبد قديم. على مدخله وضعت مسلتين أو عامودين، الأول ذهبي والثاني من الزمرد. موقعه لا يزال غامضا حتى اليوم، فلم يتمكن علماء الأثار من العثور على هذا المعبد الشهير، ولكن من المرجح أن يكون موجودا تحت الكاتدرائية الصليبية حيث كشفت حفريات موريس شهاب بقايا مبانٍ يفترض أنّها فينيقية.
في المحصّلة، مدينة صور هي رمز تاريخي وثقافي وحضاري. و نقطة التقاء بين الماضي والحاضر. وفي تعرّض هذه المعالم للاعتداءات والدمار، إنّ خطورتها تكمن في فقدان إرث فريد شكّل عبرالدهور هوية لبنان وفرادته.