بعد سقوط «الأسد».. ما المفيد لنا كلبنانيين؟
بعد سقوط «الأسد».. ما المفيد لنا كلبنانيين؟
طي صفحة الماضي الثقيل تستوجب استبدال النصب والشعارات على طرقات لبنان التي تعود لنظام الأسد بمعالم تُبرز الهوية اللبنانية، وليست مجرد مسألة رمزية، بل هي خطوة ضرورية لتحرير الوعي الجماعي من آثار الحقبة التي فرض فيها النظام السوري هيمنته على البلاد.
يقول المثل التركي إنّ «اللعب مع الذئب ينتهي غالباً بالدم»، وهو ما يمكن أن يفسّر الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، عندما رفض، لمرات ثلاث، الجلوس على طاولة المفاوضات مع تركيا طوال العام الحالي. سئم الذئب التركي من حالة اللامبالاة السورية، وقرر إنهاء اللعبة حتى وإن أدى الأمر إلى دم.
في المقابل، المثل اللبناني الذي يصف حالتنا أكثر براغماتية وسلاسة، ويقول إنّه لنا «بكل عرس قرص». العرس السوري انتهى بأن أُقصيَ الأسد عن السلطة، وفُتح الباب واسعاً أمام تحوّل دمشق إلى حاضرة سنية، تكون جاذبة لما حولها في بلاد الشام. دعونا من كل ترّهات الوحدة الوطنية اللبنانية وتعابيرها المنمقة، ولنكن واقعيين: سنة لبنان سعيدون بما جرى في دمشق، على عكس شيعته.
و«القرص» الذي لحق بنا مرّ على خير يوم الأحد الماضي، إذ اقتصر الأمر على بعض المظاهرات في عرسال وبيروت وطرابلس، وتكسير محتويات مكتب حزب «البعث العربي الاشتراكي» في حلبا العكارية. بالإضافة إلى حملات إستهزاء طالت بعض «أشاوس» وذميي «محور الممانعة» على وسائل التواصل الإجتماعي، من صنف هؤلاء الأشخاص الكثيري الكلام والقليلي المعرفة والأخلاق.
وبعد سقوط الأسد، ما المفيد لنا كلبنانيين؟ أنعاند الحكم السوري الجديد أم نتلوّن بألوانه؟ أنتعاطى معه من الند إلى الند أم نذهب ذليلين إلى قصر الحاكم الجديد في الشام لنقول له، كما فعل كثر في السابق، «الأمر لك»؟
الأمر الأول الأجدى بنا فعله هو التوصّل إلى تفاهم جدّي مع الحكم السوري الجديد. تفاهم يضمن السيادة اللبنانية ويعيد الإعتبار للعلاقات الطبيعية بين البلدين. إن قويت سوريا بعد حين، سيكون لها نفوذ في لبنان، وتحديداً في أوساط البيئات السنية، ما يقوّض الوحدة الوطنية الحقيقية. الأجدى هو تحصين العلاقات بشكل إستباقي بين لبنان والحكم الجديد في سوريا، عبر الدولة اللبنانية، وعبر ترسيم الحدود بين البلدين، وانتهاء العمل بـ«معاهدة الإخوة والتعاون والتنسيق» الموقعة بين لبنان وسوريا، التي تعطي، في بنودها، أفضلية لمصالح دمشق على مصالح بيروت.
بما أنّ النفوذ الإيراني والسوري قد بات في الحضيض في لبنان، من الأجدى، كذلك، عكس مسار ما جرى في لبنان في السنوات العشرين الماضية. هناك مرسوم لتجنيس عشرات الآلاف من غير اللبنانيين قد أُقر عام 1994، وأصبح واقعاً. ما المانع من إعادة النظر به، وما يترتب عليه من سحب الجنسية اللبنانية من غير مستحقيها، وإبقائها مع من يستحقونها؟ ما المانع مثلاً من أن يكون حضور الدولة اللبنانية قوياً على الحدود مع سوريا، وتوقيف التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية؟ أيُعقل أن يقول أبو محمد الجولاني مساء الأحد إن «الأسد حوّل سوريا إلى أكبر مصدّر ومهرّب للكبتاغون»، فيما لبنان لا يفعل شيئاً جدياً لمحاربة هذه الآفة المنتشرة بين طرفي الحدود؟
إضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز الأجهزة الأمنية والرقابية على الحدود، ليس فقط لمنع تهريب المخدرات والكبتاغون، بل أيضاً لضمان عدم تحوّل لبنان إلى منصة لأي مشروع خارجي قد يهدد إستقراره.
وفي السياق اللبناني كذلك، يصبح من الضروري التفكير في بناء حكم قوي ولامركزي يرسّخ وجود الدولة في الأطراف. إنّ تعزيز الحضور اللبناني في المناطق الحدودية، سواء من خلال دعم السلطات المحلية أو توسيع صلاحياتها في إدارة شؤونها، يمكن أن يحدّ من أي تأثير خارجي محتمل قادم، سواء كان سورياً أو غيره. فاللامركزية لا تعني فقط إدارة محلية أكثر كفاءة، بل تعني أيضاً سدّ الفراغ الذي قد تستغله أطراف خارجية لزعزعة إستقرار لبنان. وهذا النهج من شأنه تعزيز السيادة اللبنانية الحقيقية عبر تقوية الجبهة الداخلية وإغلاق الأبواب أمام أي محاولات تدخل في شؤون لبنان مستقبلاً.
إلى جانب هذا التوجه، لا بدّ من مراجعة شاملة لأوضاع الشخصيات والأحزاب التي كانت تحابي النظام السوري وتسانده، وصولاً إلى ارتكاب جرائم باسمه ضد الشعب اللبناني أو لمصلحة سياساته. هذه المراجعة يجب أن تشمل محاسبة عادلة وشفافة لكل من ثبت تورطه في قمع الحريات أو انتهاك السيادة الوطنية، مهما كانت انتماءاته. فالمصالحة الوطنية لا تُبنى على التغاضي عن الجرائم، بل على المحاسبة التي تعيد الحقوق لأصحابها وتؤسس لمرحلة جديدة قائمة على احترام القانون والدستور. يكفي النظر إلى صور وحالة من تم الإفراج عنهم من اللبنانيين من سجن صيدنايا السوري لمعرفة مدى الظلم الذي لحق بكثير من اللبنانيين، ليس على أيدي النظام السوري فحسب وإنّما على أيدي أزلامه في الداخل اللبناني.
إلى جانب الخطوات السياسية والقانونية والإدارية المطلوبة، يجب أن يكون هناك مسار واضح لإنهاء كل ما يرمز لنظام الأسد في لبنان، كجزء من طي صفحة هذا الماضي الثقيل وتعزيز السيادة الوطنية. إذ لا يمكن بناء مستقبل مستقل ومستقر في لبنان بينما لا تزال رموز النظام السوري ماثلة على الطرقات وفي أسماء الشوارع والساحات.
إزالة هذه الرموز ليست مجرد مسألة رمزية، بل هي خطوة ضرورية لتحرير الوعي الجماعي من آثار الحقبة التي فرض فيها النظام السوري هيمنته على البلاد. فمن غير المقبول أن تستمر أسماء الشوارع أو النصب التذكارية المرتبطة بنظام الأسد في المدن اللبنانية، وهي التي تمثل حقبة من التدخل والإستبداد والإنتهاكات بحق الشعب اللبناني. إنّ استبدال نصب وشعارات تعود لنظام الأسد بمعالم تُبرز الهوية اللبنانية وتشجع على قيم الحرية والسيادة لا يقتصر على تنظيف الفضاء العام من آثار الماضي، بل يسهم أيضاً في تعزيز الانتماء الوطني وتوحيد اللبنانيين حول رموزهم المشتركة.
التغيير في سوريا قد يكون فرصة للبنان، فلنستغلها.