الفولاذ الدمشقيّ ونهاية العصر البرونزيّ

الفولاذ الدمشقيّ ونهاية العصر البرونزيّ

  • ١٣ كانون الأول ٢٠٢٤
  • جورج طوق

من يعرف تاريخ بيروت ودمشق، مثل سمير قصير، يعرف عمق مقولته: إنّ ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، إنّما يعلن أوان الورد في دمشق. ليست مقولته تلك مجرّد نثرٍ شاعريّ، فالنثر لا يقتل قائله. وحدها الحقائق الثابتة والعميقة تقتل أصحابها.

في عزّ العصر الذهبيّ للأمبراطوريّة الرومانيّة، وعلى كامل مساحاتها التّي غطّت غالبيّة العالم المكتَشف في زمنها، كان المحظيّون فيها، من ساسةٍ وأغنياءَ وضبّاطٍ ونبلاءَ، يفاخرون بامتلاكهم نصلًا مسبوكًا من الفولاذ الدمشقيّ. لم تكن تموّجات الخطوط التّي ازدان بها ذاك المُوَشّي السوريّ هي ما يرفع مكانته، بل الصلْبُ الذي ملأ قوالب حدّاديه. يُثلم ولا ينكسر. صلابةٌ ومرونةٌ ومقدرةٌ لا متناهية على الشحذ المتطرّف والعودة إلى عَرّة المعارك. خصائصُ لم يضاهيها، في ذاك الزمن، أيُّ نصلٍ في أيّ مكانٍ خارج أسوار دمشق. هكذا هم السوريّون؛ يُظلمون ويُعتقلون ويُسحقون ويُذبحون  ويُهجَّرون، طيلة خمسين عام، لكنّهم، مثل فولاذهم، لا ينكسرون. سُحقَت حماة مرّتين وبقي حُماتها في وجه الدكتاتور. صُلب حمزة الخطيب فقامت درعا، في اليوم التالي، على الظلم. خنق سارين الأسد أنفاس الغوطة، لكنّها عادت وتنفّست هواء الحرّية. هكذا هم السوريّون؛ يشحذون هممهم، مرارًا، ويعودون إلى الموقعة كالخارج، حديثًا، من مصهر الحدّاد. فولاذ دمشق أبقى من برونز أصنامها. هذه حقيقة تاريخيّة.

«عصر الطُغاة البرونزيّ»
كلّ السرديّات السياسيّة فائقة التعقيد، خلف مآسي خمسة عقود من مطحنة العظام السوريّة، تُلخّص بفكرةٍ واحدة فائقة البساطة: بقاءُ رجلٍ واحد في الحكم. غريبٌ أمرُ الطُغاة. يستلهمون سِيَر بعضهم بعضًا بالحذافير. يعرفون أنّ كلّ مراحل الطريق إلى العرش هي مطلقة التطابق، ثمّ يحلمون بكتابة نهاياتٍ مختلفة. سرٌّ ما يمنع هؤلاء الحالمين من قراءة الفصل الأخير من سيرة الطاغيّة الموحّدة. كلّهم يَقمعون ويَظلمون ويَعتقلون ويُعذِّبون ويُدمّرون ويهجِّرون وِفقَ كتيّب التعليمات، وكلّهم، أيضًا، ويُذَلّون ويَسقطون. صحيح أنّ البرونز عصيٌّ على الصدأ، لكنّه غير منيعٍ على الجرّ والدهس. إغفال الفصل الأخير هذا هو ما يُبقى حلم الدكتاتوريّة قائمًا رغم كلّ دروس التاريخ. ليس الجزّاران الأسد استثناءً في كتاب سِيَر الطغاة السميك.

«الطغاة وموهبة التشويه»
للطاغية، في كلّ مكان، موهبةٌ وهوسٌ بتشويه كلّ ما هو جميل. فالإستقرار مبايعةٌ والأمان خضوعٌ وحماية التنوّع والأقليّات مذلّةٌ والوفاء استزلامٌ والصحافة والمسرح والغنى تملّقٌ وتماثيل البرونز مرعبةٌ وبشعة بلا جماليّةٍ أو قيمةٍ فنيّة. حتّى مقولة «شعبٌ واحدٌ في بلدين» الجميلة، والتّي طبعت علاقة شعوب البلدين في زمن الظلم العثمانيّ المشترك، قبل طاغية البعث بقرونٍ، حوّلها الأب والإبن إلى عطبٍ سياسيٍّ منفر. علّ نهاية عصر الأسد الأسود في سوريا يعيد بعضًا من الأصالة بين لبنان وسوريا، وإن كان التضامن والسعادة المشتركة بانتصار الفولاذ الدمشقيّ على قبضة البعث، حتّى الساعة، ملتحفان بالسياسة.

«دومينو السِنوار»
حالةٌ من التوحّد السياسيّ ترافق، دائمًا، حلم الدكتاتوريّة. هم لا يتحدّثون ولا يتصادقون ولا يتحالفون إلّا فيما بينهم. هتلر وموسوليني. ستالين وماو. كاسترو وشافيز. بوتين وخامنئي والأسد. يتكاتفون لفقدان موهبة التواصل من كلّ ما هو غير خاضعٍ أو غير خائف. يتحالفون لتفادي تأثير الدومينو. فالشيء نفسه والشجاعة نفسها والكلمة نفسها تُسقط الطاغية في كلّ مكانٍ وزمان. يُسجّل التاريخُ للسِنوار إطلاقه دومينو الأصنام البرونزيّة لطغاة الممانعة. يهمس غزّاويّون، أنّه، على غير الإعتقاد السائد، لم يكن السِنوار على قدرٍ مريحٍ من الثقة والتماثل مع شياطين الممانعة. أرادوه أُضحيةً لهم، فأرداهم في جحيم فصل السقوط الذي لا يقرأون. فالأخير اتّخذ قرارًا «شمشونيًّا»، بهدم الهيكل الممانع فوق رؤوس الجميع، وأسقط، حتّى الساعة، السيّد والأسد، في سلسلةٍ لا يبدو الأخير آخرها. سقوط باستيل البعث في صيدنايا جاء ختم تصديقٍ على اضمحلال زمنِ حماس وحزب الله. يُسجّل التاريخ، أيضًا، أنّ السِنوار وحده، من بين آلهة الممانعة، سقط بطلًا.

«ربيع بيروت وورد دمشق»
من يعرف تاريخ بيروت ودمشق، مثل سمير قصير، يعرف عمق مقولته: إنّ ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، إنّما يعلن أوان الورد في دمشق. ليست مقولته تلك مجرّد نثرٍ شاعريّ، فالنثر لا يقتل قائله. وحدها الحقائق الثابتة والعميقة تقتل أصحابها. ثمّة ارتباطٌ عميقٌ ما بين الربيع والورد في بيروت ودمشق. قد يقلب تحرّر دمشق من الوحش الأدوار، ومعها السحر على الساحر. فمع هروب الأسد وسقوط أصنامه البرونزيّة ونجاة منظومة النيترات في لبنان، قد تستبدل بيروت دورها من واحةٍ وحيدة لحماية الحريّة في هذا الشرق المشؤوم، إلى محطّةِ تدويرٍ لمخلّفات إثنين وخمسين عامٍ من القمع والبشاعة والمعاناة العبثيّة. هذا منوطٌ باللبنانيّين وبقدرتهم على التأقلم والإنتفاض والتغيير. عسّى ألّا يضطّر سمير قصير للبعث من الآخرة ليقول: إنّ ربيع العرب، عند أوان الورد في دمشق، إنّما يعلن إزهار الربيع في بيروت.