«اللورد» الثابت... عاد جنبلاط منتصراً من دمشق
«اللورد» الثابت... عاد جنبلاط منتصراً من دمشق
لو كان نبيه بري أو سمير جعجع أو جبران باسيل أذكياء بقدر ذرة ذكاء جنبلاط، لهذّبوا مواقفهم وهرولوا مرفوعي الرأس إلى دمشق. ما المانع أمامهم إن لعبوا أدواراً أكبر من حجمهم، وباتوا حماة طوائفهم في سوريا كما هم في لبنان؟ ألم يسأموا اللعبة السياسية اللبنانية المملة وأحداثها التي لا تنفك تكرر نفسها؟
على عكس ما يُشاع عنه، لا يمكن وصف زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي بالمتقلّب أو المتلوّن. وليد جنبلاط سياسي بامتياز، لا رجل قداسة أو عضو في جمعية خيرية. فالساسة الأذكياء يحددون هدفاً نهائياً ثابتاً يخدمونه طوال حياتهم، ويوظفون كافة السياسات والتصرّفات والأقوال لتحقيقه، وهذا بالضبط ما انتهجه جنبلاط منذ انطلاق مسيرته السياسية.
هدف جنبلاط هو حماية الطائفة الدرزية، وكل ما يقوم به هو في خدمة هذا الهدف. إذا اضطره الأمر، حابى حافظ الأسد بعد أسابيع من إغتياله لوالده كمال، وهذا ما فعله عام 1977. وإن رأى فرصة لحماية الأقلية الدرزية في سوريا، راح يشيد بحكم آل الأسد في القرداحة وعلى المنابر كما فعل غالباً. في الحالتين، الهدف هو الثابت، فجنبلاط لم يغيّره منذ أن استلم عباءة الطائفة وزعامتها. يمكنه أيضاً «التآمر» مع فرنسا لإخراج سوريا من لبنان كما فعل عام 2005، ووصف بشار الأسد بأشنع النعوت في ساحة الشهداء. كما يمكنه أن يفعل الشيء ونقيضه، فالغاية عنده تبرّر الوسيلة دائماً. بقاء الطائفة الدرزية هو الغاية، وكل ما عدا ذلك هو في خدمة تلك الغاية.
عاد الرجل أمس من دمشق منتصراً، حيث التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. بدا وفد جنبلاط ضخماً، وفيه ساسة ومشايخ الطائفة ومسؤولون فيها. أراد إفهام الشرع أنّه يُمسك بزعامة الطائفة، حتى وإن كان الأمر مبالغاً فيه. فأزمة الجماعة الدرزية الحقيقية أنّها مشتتة في ثلاث دول، حيث قوتها السياسية في لبنان، والديمغرافية في سوريا، والعسكرية في إسرائيل. لا يملك جنبلاط في الواقع الكثير ليقدمه للشرع المسيطر على السلطة في دمشق، ما عدا بعض الدعم الذي يمكنه أن يجيّره له لمن «يمون» عليهم من دروز سوريا، كما فك إرتباطه نهائياً بـ«محور الممانعة».
في المقابل، يمكن للشرع أن يقدّم الكثير لجنبلاط ولدروز سوريا، أوله يبدأ بعدم الضغط عليهم وآخره يكون بإشراكهم بالحكم وبتأمين حريتهم في العبادة والعيش. جنبلاط الفطن ذهب منذ اللقاء الأول إلى حد فك الإرتباط مع «المحور»، حين اعتبر أنّ «مزارع شبعا سورية»، وهو بمثابة الإقرار بأنّه لا داعي بعد اليوم لأي عمل مقاوم أو «حزب إلهي» لقتال إسرائيل.
قدرة جنبلاط على التكيّف السريع مع الأحداث والأشخاص تعطيه ميزة على بقية أقرانه من السياسيين اللبنانيين، من هؤلاء المنزوين والمتقوقعين في أفكارهم وعقائدهم وقصورهم. من يفهم التاريخ والجغرافيا بين لبنان وسوريا، يعرف أنّه في النهاية ستصبح دمشق محجّة للبنانيين، وإنّ لبنان سيصبح ملعب سوريا الخلفي، هذا إن ثبت الحكم في سوريا وقوي عوده. هذا حكم التاريخ وأحداثه، وهذا واقع الجغرافيا الثابتة بين البلدين. يمكن لمن يريد أن يعاند هذه الحقائق أن يفعل قدر ما يشاء، لكن التاريخ لا يكترث بالمتعنتين البتة.
لو كان نبيه بري أو سمير جعجع أو جبران باسيل أذكياء بقدر ذرة ذكاء جنبلاط، لهذّبوا مواقفهم وهرولوا مرفوعي الرأس إلى دمشق. ما المانع أمامهم إن لعبوا أدواراً أكبر من حجمهم، وباتوا حماة طوائفهم في سوريا كما هم في لبنان؟ ألم يسأموا اللعبة السياسية اللبنانية المملة وأحداثها التي لا تنفك تكرر نفسها؟ فبينما يَعدُ هؤلاء اليوم الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها كل من جوزف عون والياس البيسري ونعمت إفرام في لعبة برلمانية ورئاسية ضيقة الأفق، يلعب جنبلاط في ملعب أوسع، يجالس حكام دول، ويخطو بثبات نحو دمشق ليؤكد دوره كلاعب إقليمي، مستنداً إلى فطنته في قراءة التغيّرات الإقليمية وإعادة ترتيب أوراقه بما يخدم هدفه الثابت.
جنبلاط ليس رجلاً يعتنق المبادئ بجمود، بل هو سياسي يتعامل مع الواقع بحرفية عالية. في السياسة، المبادئ وسيلة وليست غاية، ومن يظن غير ذلك، سيجد نفسه على الهامش، يتفرج على المتغيّرات دون القدرة على التأثير فيها. هكذا يفعل جنبلاط، يتحدث مع الجميع، يعيد تعريف مواقفه حسب الظروف، لكن دائماً في إطار هدفه الأسمى: بقاء الطائفة الدرزية وازدهارها.
في زيارته الأخيرة إلى دمشق، لم يكن وليد جنبلاط يخاطب أحمد الشرع فحسب، بل كان يخاطب التاريخ والجغرافيا أيضاً. يعرف أنّ زعامته للطائفة تتطلّب منه التأقلم مع الحقائق الجيوسياسية، وأنّ القوة الحقيقية تأتي من إستباق الأحداث وليس من مواجهتها بعناد. لذلك، لم يتردد في توجيه رسائل واضحة بفك ارتباطه بمحور الممانعة، وتبنّي موقف يرضي دمشق الجديدة دون أن يبدو في موقف ضعف. هذا النوع من البراغماتية، الذي يتقنه جنبلاط، يجعل منه لاعباً فريداً على الساحة اللبنانية.
أما الآخرون، فهم، بمعظمهم، أسرى خطابهم المتصلب وإرتباطاتهم الضيقة، غير قادرين على تجاوز حسابات الداخل اللبناني أو حتى رأي جمهورهم الجامد والعنيد. ربما عليهم أن يتعلموا من وليد جنبلاط، الذي يرى الصورة الأوسع ويتحرك في إطارها. في زمن تتغير فيه التحالفات وتنقلب فيه الموازين، يحتاج لبنان إلى سياسيين يقرؤون المستقبل ويجارون الأحداث، لا إلى أولئك الذين يعيدون إجترار الماضي، أو إلى الثابتين على مواقفهم بينما الدنيا تتغير من حولهم.
جنبلاط، في مشهد لقائه الأخير مع القيادة السورية، كان أشبه بـ«لورد» إقطاعي، يتفاوض بإسم قومه في أرضه وأرض غيره، جامعاً بين الدبلوماسية والبراغماتية، وبين التاريخ والجغرافيا، ومكرساً حقيقة بسيطة: أنّ الزعامة ليست خطاباً وأقوالاً بل أفعالاً، وليست شعارات ومبادئ بل نتائج.