في مأتم «المحور»: رثاء متأخّر لمقاومة ماتت
في مأتم «المحور»: رثاء متأخّر لمقاومة ماتت
تحوّل محور المقاومة من مشروع إقليمي إلى مأساة محلية. من «وعد صادق» إلى «عزاء مفتوح». لم ينهار فجأة، بل تآكل بهدوء.
في زاوية مهجورة من ذاكرة الشعوب، ثمة تابوت وحوله مشيّعين. لا يرفرف فوقه علم، ولا تصدح له أناشيد، ولا تتسابق القنوات لنقله مباشرة. هناك، وُضع جسد محور كان يُقال عنه مقاومة، جسد بلا رأس، ومن حوله تجمّع هؤلاء الذين خسروا كل شيء ما عدا قناعتهم بأنّهم لم يخسروا شيئاً.
مات أمين عام «حزب الله»، الرجل المهيب الذي كان يصرخ في الشاشات عن «زوال الكيان»، فزال هو قبل أن يرى زوال شيء. إنتهى زمن «النصر الإلهي» الذي لم يترك خلفه إلا أنقاض الضاحية، وشبكات تهريب، وشباباً يافعين يُدفنون بصمت في وديان الجنوب أو في سهول البقاع. انتهت الخطب التي كانت تحمل في نبرات مطلقيها بوادر النصر، وذبلت الرايات الصفراء كما تذبل فكرة لم تجد يوماً طريقها إلى الواقع.
وفي دمشق، حيث كانت لافتات الأسد ترتفع فوق جدران مدمرة، رحل النظام الذي شرب الدماء بإسم العروبة، وتهاوى تحت ركام وطن اختنق ببراميله. لم يكن وصول أحمد الشرع إلى الحكم إلا إعلاناً واضحاً أنّ سوريا قد نجت من المحور لا بفضله.
سوريا، التي وعدت بتحرير الأرض عبر المعارك، وجدت نفسها ساحة للتصفية والديكتاتورية. سُرقت بإسم المقاومة، واستُبيحت بإسم الممانعة، وتحولت إلى ساحة إختبار للأسلحة الإيرانية والروسية، بينما كان شعبها يقف على أبواب الأمم طالباً الخبز والخلاص لا البندقية. النظام الذي وقف مع طهران ضد شعبه، وجد نفسه في نهاية المطاف غريباً عنها، كما عن أرضه.
أما طهران، التي كانت تحلم بقنبلة نووية تضعها على طاولة التفاوض لترهِب العالم، فقد باعت مشروعها في سوق الخسارات، مقابل رفع عقوبات لم تعُد تكفي لترميم طريق في مدينة مهجورة. رضخت للضربات الإسرائيلية والأميركية، كما للمفاوضات، ثم خرجت تبحث عن مظلة معنوية، لم تجدها حتى في كربلاء. سقطت كالإمبراطورية التي ظنت أنّها تستطيع تصدير ثورتها على حطام الشعوب، فإذا بها تصدّر النفط... والخذلان.
توقفت عن الصراخ جدياً في وجه «الشيطان الأكبر»، وبدأت، منذ زمن، تهمس له في فيينا وجنيف ومسقط. أدمنت المراوغة حتى خذلت حلفاءها والعالم. أولئك الذين صدقوا أنّ الجمهورية الإسلامية أم المقاومة، اكتشفوا أنّها أم المصالح، وأنّ خامنئي ليس موسى، بل مجرد سياسي يهمه دوام حكمه. أما الحرس الثوري، فبات أقرب إلى شركة أمنية خاصة، تدير ما تبقى من ميليشيات بالخارج وتحرس الإستثمارات في الداخل
.
وفي غزة، حيث كان يُرفع لواء «المقاومة حتى النصر»، انكفأت حماس في عزلة مزدوجة: من الداخل الفلسطيني الغاضب على مشاريعها، ومن الخارج العربي الذي تعب من استثمارها البائس في القضية. لم تعُد رايات «الجهاد الإسلامي» تُرى في الميدان، إلا كأشلاء بين أنقاض بيوت لن تبنى في المستقبل القريب. ولم تعُد شعارات «تحرير القدس» سوى خلفية متهالكة لخطب عن الإنتصارات الأخلاقية، فيما تسيل الدماء ويُقصف الحجر والبشر وكل شيء بينهما.
أما الحوثيون، فأصبحوا هدفاً أسبوعياً سهلاً للطائرات الإسرائيلية. في زحمة الموت، لم يكترث صحافي يوماً في تعداد اليمنيين الذي ماتوا أو نشر أسماءهم. أسطورة «صنعاء مقابل القدس» سقطت منذ زمن. تحوّلت جبال اليمن إلى مقابر جماعية لشباب ضُلِلوا بأنّ طريق الأقصى تمر من صعدة. نُهبت البلاد بإسم «الحق الإلهي»، وقُصفت المدن بإسم تحرير مكة، وإذ بإسرائيل تقصفهم من السماء، فلا يردون إلا بالبيانات وبعض الصواريخ التي لا تجد لها نهاية إلا في السماء أو في البحر.
وفي العراق، حيث كانت الميليشيات ترفع صور الخميني أكثر من علم بلادها، تحوّلت الفصائل إلى أدوات تفتيت. مزقت الأرض، وعاثت فساداً في الدولة، حتى أصبحت بغداد رهينة. نقضوا معنى السيادة، حتى باتت الحدود مستباحة، والقرار محتلاً من دون جندي. من «كتائب حزب الله» إلى «العصائب» إلى «النجباء»، كلها صارت أسماء مرفوقة بالمذلة والتشبيح، لا بالمقاومة.
كل هذا لم يحدث فجأة. لم تُهزَم «المقاومة» في معركة أولاً، بل انهارت في الأخلاق. تآكلت ببطء، كالمرض الذي لا يُرى إلا في المراحل الأخيرة. سقطت حين قايضت الحرية بالزعامة، والوطن بالمذهب، والقضية بالمشروع. حين جعلت السلاح فوق الدولة، والصوت فوق الضمير، والتكليف فوق الرأي.
هكذا، تحوّل محور المقاومة من مشروع إقليمي إلى مأساة محلية. من «وعد صادق» إلى «عزاء مفتوح». لم ينهار فجأة، بل تآكل بهدوء. لم تهزمه الدبابات الإسرائيلية، بل صمته عن المجازر، تواطؤه مع الطغيان، واعتقاده أنّ الشِعار وحده يكفي لصناعة التاريخ.
لم يُحرّر أرضاً، ولا أعاد لاجئاً، ولا أسقط صفقة، ولا حمى كرامة. بل فعل العكس: دكّ المدن فوق رؤوس أصحابها، هجّر الملايين بإسم «الصمود»، وقايض استقلال الأوطان برضا المرشد.
انتهى المحور لأنّه لم يفهم أنّ المقاومة لا تكون بتقديس الموت، بل بصناعة الحياة. لا تكون بعبادة القادة، بل بكرامة الناس. لا تكون بمصادرة الحريات، بل بتحرير الناس وطاقات الناس وآمال الناس.
وها نحن اليوم، في لحظة أفولهم، لا نملك إلا الرثاء. ليس على الذين ماتوا، بل على الذين ظلّوا أحياء دون أن يعترفوا أنّهم خسروا. على الذين ما زالوا يصرّون أنّ الخراب «جزء من الخطة»، وأنّ الدماء «ثمن للكرامة»، وأنّ الهزيمة «مرحلة من مراحل النصر».
لكن الأرض تتكلم الآن، لا البيانات. والناس اختاروا الحياة، لا الخطابات. والمحور الذي ظن أنّه البديل، صار اليوم عبرة. لا لأعدائه فقط، بل حتى لأبنائه الذين عادوا من الجبهات باحثين عن وظيفة ومستقبل، لا عن تحرير.
في مأتم المحور، لا حاجة لقراءة فاتحة. بل يكفي أن نهمس: لقد قاومتم دون جدوى، وهُزمتم أمام الواقع وأمام الحقيقة وأمام الحياة.