طرابلس.. المدينة التي خسرها لبنان قبل أن «تشتريها» سوريا
طرابلس.. المدينة التي خسرها لبنان قبل أن «تشتريها» سوريا
طرابلس لم تُخسر في جنيف أو في باكو أو في مسقط أو في تل أبيب. بل خسرها لبنان، ببطء وسابق إصرار، حين قايضها بالمحاصصة، وحين غاب عنها التمثيل السياسي الحقيقي، وتحوّلت إلى ساحة تصفية حسابات لا إلى ساحة قرار.
عند الشمال اللبناني، تقف مدينة إسمها طرابلس، لا تُطلّ على البحر وحسب، بل على مرآة تعكس صورة الدولة كما هي: باردة، غائبة، ومتخلّية. لم تكن هدفاً اليوم فقط في تسريبات المفاوضات والطروحات الدولية، بل خُسِرت طرابلس منذ زمن، يوم قررت السلطة أنّها لا تُشبهها، ولا تليق بصورة الوطن التي تريد رسمه.
طرابلس لم تكن في قلب لبنان يوماً، بل على هامشه. هامش الخريطة، هامش الإنماء، هامش السياسة. لبنان لم يحتَج اليوم إلى تسريب إسرائيلي أو تصريح سوري ليتذكّر أنّ طرابلس مهددة… بل نسيها طويلاً، حتى تحوّلت إلى شيء يُذكر فقط عند كل إنفجار، أو إشتباك، أو خطة أمنية.
ما يُقال اليوم عن إمكانية تسليم طرابلس في تسوية إقليمية أو دولية لا يُفاجئ من عاش فيها. لأنّ من يُهمل مدينة لثلاثة عقود، لا يملك الحق أن يزعم الغضب عندما تُطرح على طاولة التفاوض. المدينة لم تُخسر في جنيف أو في باكو أو في مسقط أو في تل أبيب. بل خسرها لبنان، ببطء وسابق إصرار، حين قايضها بالمحاصصة، وحين غاب عنها التمثيل السياسي الحقيقي، وتحوّلت إلى ساحة تصفية حسابات لا إلى ساحة قرار.
طرابلس كانت منذ سنوات طويلة يتيمة. بلا دولة ترعاها، بلا زعامة تمثلها، وبلا مشروع يحميها. سُمّي باسمها زعماء، ثم نسوها على أرصفة الجوع والفوضى. استخدِمت كورقة، كمخزن أصوات، كساحة توتر أمني، ولم يُقدَّم لها شيء سوى المزيد من الحرمان. حتى من صعد من أحيائها إلى البرلمان والحكومة، صعد بإسمها لا لأجلها، وتحوّل لاحقاً إلى واجهة في مشهد لا يعنيها.
اليوم، حين يُقال إنّها مطروحة «للتبادل»، أو «للضم»، لا يغضب الطرابلسي لأنّه صدّق الإحتمال، بل لأنّه رأى في الطرح تأكيداً على ما يشعر به منذ زمن: أنّ هذه المدينة ليست على جدول أولويات الدولة. لم تكن يوماً كذلك. لا في التنمية، ولا في التعليم، ولا في التوظيف، ولا حتى في الخطاب الوطني.
لبنان الرسمي لم يردّ. لم يُصدر موقفاً واحداً فيه حدّ أدنى من الإلتزام. الدولة، التي تُسارع إلى الدفاع عن صخرة صغيرة أو شجرة في الحدود الجنوبية، لم ترفع صوتها حين طُرحت طرابلس كمدينة قابلة للضمّ، لكأنّها بلا أهل، أو بلا وزن، أو بلا ذاكرة.
لكن المدينة لها ذاكرة. ذاكرة موجوعة. تعرف متى هُمِّشت، ومتى أُهمِلت، ومتى صارت جسراً يعبر عليه الطامحون إلى السلطة، ثم يتركونها غارقة في الوحل. طرابلس ليست في خطر لأنّها مطروحة على طاولة مفاوضات. هي في خطر لأنّ لبنان لم يعِرها إهتماماً حين كان يجب أن يفعل ذلك. لم تُخسر اليوم أو بالأمس القريب، بل منذ أن تحوّل تمثيلها السياسي إلى مقاعد شاغرة معنوياً وبيد رجال دون هيبة، ومنذ أن صار الصوت السني بلا وزن حقيقي، بلا مشروع، بلا مرجعية.
الإعتذار، اليوم، لا يكفي. لكن لا بدّ منه. نعتذر منكِ يا طرابلس، لأنّنا خذلناكِ مرتين: مرّة حين أهملتك الدولة، ومرّة حين مثّلك من لا يمثلونك. نعتذر لأنّنا نظرنا إليكِ، غالباً، كخطر، لا كفرصة. كأرض قابلة للإشتعال، لا كأرض قادرة على النهوض.
لكن الاعتذار وحده لا يبني مدينة.. ولا يرمم هوية مدينة.
طرابلس ليست للبيع، ولا للتأجير، ولا للتفاوض. هي مدينة لها أهل، ولها تاريخ، ولها حقّ. إذا كان بعضهم اليوم يطرح إسمها على خرائط التقسيم والمساومة، لأنّهم رأوا كم هي وحيدة. وإذا كانت بعض العواصم ترى فيها منتجعاً شاطئياً، فلتتذكّر أنّ أهلها لم يُولدوا عبيداً ولا مستأجرين. بل أصحاب حقّ، في وطن لا يعرف غالباً كيف يحفظ الحقوق.
طرابلس ليست في الواجهة لأنّها ضعيفة. بل لأنّها مكشوفة. بلا حلفاء، بلا غطاء، بلا صوت وطني صادق يقول: هذه مدينتنا، وسنبنيها، لا نفاوض عليها.
في مأتم «السنية السياسة»، كانت طرابلس أولى الضحايا. وفي غياب الدولة، كانت أوضح الأدلة. واليوم، إذا لم تستفِق الدولة، فستكون طرابلس أول الخسائر الجغرافية… ولكنها لن تكون الأخيرة.
وفي الختام، ليست طرابلس من تحتاج إلى رثاء، بل الدولة التي خذلتها، والسياسات التي اعتادت التفريط بالمدن قبل أن تتعلم كيف تُنصفها أو تديرها كما يليق. لكن طرابلس ستبقى، لأنّها تشبه الشعب أكثر مما يشبهه حكامه. ستبقى، ولو باع من باع، ولو اشترى من اشترى، ولو خان من خان!