العلّامة توما مهنا.. راهب السياسة
العلّامة توما مهنا.. راهب السياسة
«الصلح لا يكون على حساب الحقيقة»، ومن يساوم على الذاكرة يُفقِد الأوطان معناها.
رحل بالأمس الأب توما مهنا، العلّامة الماروني الذي كان يكتب بالفكر كما يُقاتل الآخرون بالمعاول أو بالسلاح. غاب الرجل الذي جمع بين الفلسفة والسياسة، بين الدير والجبهة، بين الكلمة والموقف، تاركاً وراءه سيرة تكاد تختصر وجع لبنان ومجده في آن. لم يكن راهباً عادياً، بل شاهداً على زمن حاول فيه العقل أن يواجه البندقية، وأن يجد لله معنىً في وطن يتهاوى بين الشعارات والدم.
منذ بداياته في الرهبنة اللبنانية المارونية، لم يكن الأب توما مهنا شبيهاً لغيره. درس الفلسفة في روما، وعاد إلى لبنان لا ليُدرِّس فقط، بل ليؤسس لجيل يفكر في الحرية لا كنعمة ممنوحة، بل كواجب مقدّس. ومع إشتعال الحرب اللبنانية، وجد نفسه في قلب الصراع، لا مقاتلاً على الجبهات، بل مفكراً في صلب «الجبهة اللبنانية»، حيث اجتمع السياسيون والمفكرون لصياغة معنى الدولة والحرية والوطن في زمن الإنقسام. هناك، في مكاتب جامعة الروح القدس – الكسليك، كان الأب مهنا سكرتيراً للجنة الدراسات، ينسّق بين المواقف ويصوغ البيانات، لكنّ دوره تجاوز التنظيم إلى صياغة فكر سياسيّ لبنانيّ أصيل، يستمد جذوره من تاريخ الموارنة في الدفاع عن الكيان، ويبحث في آن واحد عن صيغة عيش مشترك تحفظ الإنسان والهوية.
لم يكن الأب مهنا من رجال الشعارات، بل من صنّاع الأفكار. رفض تحويل الحرب إلى ذريعة للبربرية، وأصرّ على أن تبقى «الجبهة اللبنانية» فكرة، لا ميليشيا. كان يرى أنّ بشير الجميّل، الذي أحبّه ورافق مشروعه، لم يكن زعيماً عسكرياً فقط، بل محاولة لتجديد الميثاق الوطني من منطلق القوة المقرونة بالقيم. وحين اغتيل بشير، كتب الأب مهنا بمرارة الفيلسوف الذي شاهد إنكسار الفكرة قبل سقوط الجسد. لكنه لم يستسلم. واصل عمله في الدفاع عن «لبنان الفكرة»، لبنان الإنسان لا الطائفة، لبنان الحرية لا الولاء الأعمى، لبنان الذي لا يُقاس بحدوده بل برسالته.
بعد الحرب، حين تهاوت الجبهات وبدأ زمن التسويات، إنسحب الأب مهنا إلى صمته في دير ميفوق، لكنه لم ينسحب من المعركة. ظل يكتب، يُراسل، ويشارك في النقاشات الفكرية والسياسية من موقع الراهب المقاوم. رفض تسليم لبنان لمنطق الوصاية، وانتقد من جعلوا المصالحة ستاراً للنسيان. كان يقول: «الصلح لا يكون على حساب الحقيقة»، ويؤمن بأنّ من يساوم على الذاكرة يُفقِد الأوطان معناها.
لم يكن موقفه الحزبي يوماً عبودية أو بروباغندا، بل إلتزاماً بفكرة. كان، لفترة، قريباً من القوات اللبنانية، لا كتنظيم، بل كمشروع دفاع عن الوجود. وحين انحرفت السياسة نحو ما لم يستسيغه، حافظ هو على ثباته في الأخلاق. كان يجلس مع طلابه في الكسليك يشرح لهم فلسفة إبن سينا، ثم يحدثهم عن بشير الجميّل كما لو كان تلميذاً من تلامذة الفلسفة المثالية. كان يرى في «الجبهة» فكرة أفلاطونية لم تكتمل، لأنّ، بحسبه، من حملوها تعبوا قبل أن يبلغوا الحقيقة.
رحل الأب توما مهنا وقد أدرك أنّ ما بدأه جيله لم يكتمل، لكنه أيضاً لم يذهب هباءً. ترك خلفه أرشيفاً من الأفكار والمذكرات والمقالات التي تشهد أنّ السياسة، في معناها الأسمى، يمكن أن تكون صلاة، وأنّ الوطنية ليست نقيض الرهبنة، بل إمتدادها على الأرض.
اليوم، حين يُذكر إسمه، يُذكر معه جيل من الفاعلين والمفكرين الموارنة الذين حاولوا إنقاذ لبنان من نفسه. من يوسف بِك كرم وطانيوس شاهين، إلى بشير وفؤاد بطرس، ومن كمال الصليبي وميشال حايك إلى أنطوان نجم. لكن مهنا، بخلاف الجميع، ظلّ راهباً في السياسة، لا سياسياً في الرهبنة. عاش النذر في الفكر كما في الإيمان، وواجه الإنكسار بالكتابة، والصمت بالمعنى.
سلام لروحه التي لم تهادن، ولقلمه الذي ظل يقاوم حتى النهاية. سلام لدير ميفوق الذي حضن راهب آمن أنّ خلاص لبنان لا يكون بالبنادق، بل بالفكر الحر، وبالذاكرة التي لا تموت. لقد رحل الأب توما مهنا، لكن فكرته ما زالت حيّة، وهي أنّ الإيمان، حين يتجسّد في الموقف، يصنع وطناً لا يُهزم... حتى لو خسر كل معاركه.