ما لا نريده من زيارة البابا إلى لبنان
ما لا نريده من زيارة البابا إلى لبنان
إنّ لبنان لا يحتاج إلى من يذكّره بأنّه "رسالة"، بل إلى من يسأله بجرأة: أي رسالة هذه؟ رسالة الإنقسام ، أم الفساد، أم العيش المشترك؟ الذي صار مجرد توزيع طائفي للغنائم.
الزيارة المرتقبة للبابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان في نهاية الشهر القادم لن يكون حدثاً دينياً فحسب، بل عرض ضخم سيُقدَّم على المسرح اللبناني، حيث تُضاء الكاميرات، وتُفرش السجادات الحمراء، وتُعلّق اللافتات التي تفيض بالشعارات عن «لبنان الرسالة»، و«التنوّع الغني»، و«التعايش المبارك بين الأديان». لكن خلف هذه العبارات المنمقة، يقف بلد مفلس، ممزق، متعب من نفسه، يعيش على فتات الماضي وشعاراته.
ما لا نريده من زيارة البابا هو المزيد من الكلام عن«لبنان نموذج العيش المشترك». لقد حفظ اللبنانيون هذا الشعار التافه عن ظهر قلب، وكرروه في كلّ مناسبة، حتى صار أشبه بتعويذة فارغة، تُقال في المؤتمرات والبيانات والخطب عندما لا يملك المتحدّث أي شيء مهم لقوله، بينما الواقع اليومي يكذّبها في كل زاوية.
العيش المشترك في لبنان لم يعد تجربة رائدة بل تسوية قسرية بين جماعات متوجسة، يتقاسم فيها الجميع الخوف والمصالح لا المحبة والإيمان.
نحن لا نريد أن تتحوّل زيارة البابا إلى تظاهرة روحية عاطفية يصفق فيها الجميع لخطاب عن «الحوار بين الحضارات»، وكأنّنا لم نجرب هذا الحوار منذ الإستقلال حتى الآن. هذا البلد لم يُخلق ليكون مختبراً للتجارب الثقافية والدينية، بل وطناً حقيقياً لمواطنيه.
والمسيحيون في لبنان، الذين صمدوا عبر الحروب والانقسامات والتهجير، لا يحتاجون إلى مديح شعري عن دورهم الحضاري بقدر ما يحتاجون إلى دعم سياسي ومعنوي حقيقي، يعيد لهم موقعهم الفعلي في قلب الدولة والإدارة وصناعة القرار، لا على هامشها الرمزي.
ما لا نريده من زيارة البابا، أن تُستخدم لتلميع صورة السلطة السياسية التي تتربّص خلف الكواليس بانتظار اللقطة التاريخية: صورة تذكارية مع الحبر الأعظم، أو مشهد تقبيل اليد أمام العدسات، قبل أن يعود كل واحد منهم إلى فساده المعتاد. هؤلاء لا يريدون من البابا سوى الغطاء المعنوي، ليُقال إنّ لبنان لا يزال حياً، بينما هو يحتضر في العناية الفائقة.
ولا نريد أن يتحول الحضور المسيحي إلى مشهد فولكلوري يُقدَّم للعالم كدليل على «صمود التنوع»، فيما الشباب المسيحي يهاجر، والرهبانيات تبيع أراضيها لتسديد الديون، والكنائس تخلو من أبنائها إلا في الأعياد. البابا لا يجب أن يكتفي ببركة رمزية، بل أن يسمي الأشياء بأسمائها: أن يقول علناً إنّ المسيحيين في لبنان مهددون بالإنقراض السياسي والاجتماعي، لا بسبب الإضطهاد، بل بسبب العجز الجماعي عن بناء دولة تحمي أبناءها، وبسبب قلة حيلة قادتهم السياسيين.
إنّ لبنان لا يحتاج إلى من يذكّره بأنّه «رسالة»، بل إلى من يسأله بجرأة: أي رسالة هذه؟ رسالة الإنقسام، أم الفساد، أم العيش المشترك الذي صار مجرد توزيع طائفي للغنائم؟ من الأفضل للبابا أن يأتي زائراً يسائل، لا زائراً يبارك. أن يتحدث عن المسؤولية قبل الأخوّة، وعن العدالة قبل التسامح. لأنّ المسيحية، قبل أن تكون دعوة إلى الحوار، هي دعوة إلى الحقيقة.
قد تكون زيارة البابا فرصة نادرة لاستعادة شيء من المعنى، لكن فقط إذا تحرّرت من المجاملة البروتوكولية ومن غبار الشعارات. فلبنان اليوم لا يحتاج إلى عظات عن الأمل فقط، ولا إلى شبيبة الفرسان والطلائع يلوحون بأعلام دولة الفاتيكان على الطرقات، بل إلى مواجهة صادقة مع واقعه المنهار. لا نريد إبتسامات أمام الكاميرات، بل صرخة في وجه الذين جعلوا من هذا الوطن مسرحاً للرياء الديني والسياسي.
ربما آن الأوان أن يسمع البابا من اللبنانيين لا أن يخاطبهم. أن يرى فيهم شعباً يبحث عن قيامة حقيقية، لا عن رتبة قداس إحتفالي. لأنّ القداسة، في النهاية، لا تُقاس بعدد الصلوات، بل بقدرة الإنسان على قول الحقيقة في زمن الكذب.
وفي بلد صار كل شيء فيه مشهداً معدّاً للتصوير، ربما نحتاج أخيراً إلى من يطفئ الكاميرا، ويجلس معنا بصمت، حيث يبدأ الإيمان الحقيقي، وحيث ينتهي التمثيل والتكاذب الوطني.
ما لا نريده من زيارة البابا هو المزيد من الكلام عن«لبنان نموذج العيش المشترك». لقد حفظ اللبنانيون هذا الشعار التافه عن ظهر قلب، وكرروه في كلّ مناسبة، حتى صار أشبه بتعويذة فارغة، تُقال في المؤتمرات والبيانات والخطب عندما لا يملك المتحدّث أي شيء مهم لقوله، بينما الواقع اليومي يكذّبها في كل زاوية.
العيش المشترك في لبنان لم يعد تجربة رائدة بل تسوية قسرية بين جماعات متوجسة، يتقاسم فيها الجميع الخوف والمصالح لا المحبة والإيمان.
نحن لا نريد أن تتحوّل زيارة البابا إلى تظاهرة روحية عاطفية يصفق فيها الجميع لخطاب عن «الحوار بين الحضارات»، وكأنّنا لم نجرب هذا الحوار منذ الإستقلال حتى الآن. هذا البلد لم يُخلق ليكون مختبراً للتجارب الثقافية والدينية، بل وطناً حقيقياً لمواطنيه.
والمسيحيون في لبنان، الذين صمدوا عبر الحروب والانقسامات والتهجير، لا يحتاجون إلى مديح شعري عن دورهم الحضاري بقدر ما يحتاجون إلى دعم سياسي ومعنوي حقيقي، يعيد لهم موقعهم الفعلي في قلب الدولة والإدارة وصناعة القرار، لا على هامشها الرمزي.
ما لا نريده من زيارة البابا، أن تُستخدم لتلميع صورة السلطة السياسية التي تتربّص خلف الكواليس بانتظار اللقطة التاريخية: صورة تذكارية مع الحبر الأعظم، أو مشهد تقبيل اليد أمام العدسات، قبل أن يعود كل واحد منهم إلى فساده المعتاد. هؤلاء لا يريدون من البابا سوى الغطاء المعنوي، ليُقال إنّ لبنان لا يزال حياً، بينما هو يحتضر في العناية الفائقة.
ولا نريد أن يتحول الحضور المسيحي إلى مشهد فولكلوري يُقدَّم للعالم كدليل على «صمود التنوع»، فيما الشباب المسيحي يهاجر، والرهبانيات تبيع أراضيها لتسديد الديون، والكنائس تخلو من أبنائها إلا في الأعياد. البابا لا يجب أن يكتفي ببركة رمزية، بل أن يسمي الأشياء بأسمائها: أن يقول علناً إنّ المسيحيين في لبنان مهددون بالإنقراض السياسي والاجتماعي، لا بسبب الإضطهاد، بل بسبب العجز الجماعي عن بناء دولة تحمي أبناءها، وبسبب قلة حيلة قادتهم السياسيين.
إنّ لبنان لا يحتاج إلى من يذكّره بأنّه «رسالة»، بل إلى من يسأله بجرأة: أي رسالة هذه؟ رسالة الإنقسام، أم الفساد، أم العيش المشترك الذي صار مجرد توزيع طائفي للغنائم؟ من الأفضل للبابا أن يأتي زائراً يسائل، لا زائراً يبارك. أن يتحدث عن المسؤولية قبل الأخوّة، وعن العدالة قبل التسامح. لأنّ المسيحية، قبل أن تكون دعوة إلى الحوار، هي دعوة إلى الحقيقة.
قد تكون زيارة البابا فرصة نادرة لاستعادة شيء من المعنى، لكن فقط إذا تحرّرت من المجاملة البروتوكولية ومن غبار الشعارات. فلبنان اليوم لا يحتاج إلى عظات عن الأمل فقط، ولا إلى شبيبة الفرسان والطلائع يلوحون بأعلام دولة الفاتيكان على الطرقات، بل إلى مواجهة صادقة مع واقعه المنهار. لا نريد إبتسامات أمام الكاميرات، بل صرخة في وجه الذين جعلوا من هذا الوطن مسرحاً للرياء الديني والسياسي.
ربما آن الأوان أن يسمع البابا من اللبنانيين لا أن يخاطبهم. أن يرى فيهم شعباً يبحث عن قيامة حقيقية، لا عن رتبة قداس إحتفالي. لأنّ القداسة، في النهاية، لا تُقاس بعدد الصلوات، بل بقدرة الإنسان على قول الحقيقة في زمن الكذب.
وفي بلد صار كل شيء فيه مشهداً معدّاً للتصوير، ربما نحتاج أخيراً إلى من يطفئ الكاميرا، ويجلس معنا بصمت، حيث يبدأ الإيمان الحقيقي، وحيث ينتهي التمثيل والتكاذب الوطني.

