إدوارد غبريال البشعلاني .. نشأت على صوت فيروز.. هذا ما سيفعله الأميركي إذا نُزِع السلاح

إدوارد غبريال البشعلاني .. نشأت على صوت فيروز.. هذا ما سيفعله الأميركي إذا نُزِع السلاح

  • ٣٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • خاص بيروت تايم

ليس مجرد سفير سابق، بل رجل صنع مسيرته على فكرة نادرة في زمن الإنقسام؛ فكرة أنّ السياسة يمكن أن تكون فعلاً أخلاقياً، وأنّ الحوار بين الشرق والغرب لا يزال ممكناً إن وُجِد من يصغي.

وُلد في نيويورك، لكن جذوره بقيت معلّقة بقرية جبلية تطلّ على البحر. هناك، وبهذا الإلتباس الجميل بين البُعد والقُرب، بين أمريكا ولبنان، بنى إدوارد غبريال مسيرته على فكرة واحدة: أنّ الجسور أقوى من الجدران. يحاول أن يصالح التاريخ مع الجغرافيا، وأن يجعل البحر المتوسط ساحة حوار لا حلبة إنقسام. في كل ظهور له، يبدو وكأنّه يقف على جسر شفاف بين عالمين، يوازن بين الخطط والمشاعر، بين ضوء واشنطن البارد وضوء بيروت الحنون. وعندما يتحدث عن لبنان، تتحوّل نبرة صوته إلى حنين جارف، وكأنّه لا يراه بلداً سياسياً مضطرباً، بل قصيدة لم تكتمل فصولها، يحاول عبر مبادراته أن يعيد كتابتها سطراً سطراً على طريق العدالة والدبلوماسية الهادئة.
هو ليس مجرد سفير سابق، بل رجل صنع مسيرته على فكرة نادرة في زمن الإنقسام؛ فكرة أنّ السياسة يمكن أن تكون فعلاً أخلاقياً، وأنّ الحوار بين الشرق والغرب لا يزال ممكناً إن وُجِد من يصغي. اللقاء معه عن رحلته بين نيويورك وبيروت والرباط، عن السياسة بوصفها فن الإصغاء، وعن الإنسان الذي ظلّ في قلب كل هذا. عن جذوره الراسخة في القلب والأرض، وعن لبنان العتيق جداً الساكن في أعماقه.

مقابلة مع إدوارد غبريال البشعلاني، رئيس مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان.   ضمن برنامج IN MY DNA مع ريميال نعمة على منصة بيروت تايم

رابط الحلقة كاملاً على يوتيوب

https://www.youtube.com/watch?

تعدديّة الهوية: جينات لبنانية وشخصية أمريكية

- منسوب الجينات اللبنانية أكبر أم الأميركية، وأين تلتقي هاتان الهويتان وأين تفترقان؟

 حمضي النووي علمياً لبناني بنسبة ١٠٠٪ ، وشخصيتي أميركية ولدت ونشأت في غرب نيويورك كأي فتى أميركي ولم أرَ لبنان إلا في السابعة والأربعين من عمري. أمي كانت إبنة مهاجرين في العام 1895 من حاصبيا، أمّا والدي فقدِم في العام 1910 وكان في العاشرة من عمره ولم يعُد أبداً إلى لبنان. عندما وصلوا الى جزيرة «إيليس» تخلوا عن إسم البشعلاني وإحتفظوا بالإسم الثلاثي غبريال. وفي العام 1994 كانت المرة الأولى التي أزور فيها قريتي صليما.

عند زيارتي مؤخراً إلى قريتي صليما غمرتني المشاعر، وأحبّ أن أعود إليها دائماً، هناك أشعر السكينة، والناس رائعون. لو تسنى لي أن أخبر والديّ عنها سأقول إنّها بلدة جميلة تظلّلها أشجار الصنوبر والزيتون، وسأشكرهما على جذوري الممتدة من حاصبيا إلى صليما، وعلى مجيئهما إلى أميركا لأنّهما أعطياني فرصتي في الحياة.

 


نكهة لبنان في قلب أمريكا: من «المجدرة»إلى فيروز، إلى الطقس السرياني

- هل يمكن الإنتماء جغرافياً وروحياً لبلدين بنفس الوقت؟وكيف أثرت هذه الإزدواجية الثقافية على رؤيتك للعالم؟

 أؤمن أنّ ما يشكل روحي وهويتي الحقيقية السمات اللبنانية المتأصلة في شخصيتي، أكان من ناحية الروابط العائلية والدفء الإنساني وروح الخدمة، أو الإحتفاء بالضيوف حول المائدة اللبنانية. والدتي، كانت تحضّر يومياً طبقاً لبنانياً. أتذكر أنّها كانت تقول إذا لم «يتكرمل» البصل جيداً  في طبق «المجدرة» هذا يعني أنّ لبنان «مكسور الخاطر». نحن اللبنانيون غالباً ما كانت تقاليدنا مرتبطة بالإجتماع  حول الطعام اللبناني، وأعشق «الكبة النيّة». 
لقد عشت في حيّ لبناني يبعد شارعاً واحداً عن الكنيسة اللبنانية، في مدينة تضمّ 200 عائلة لبنانية، رقصت الدبكة وتربيت على صوت فيروز، ودرست مع أطفال من كل الأصول: لبنانيون، عرب، وإيطاليون. كنت خادم مذبح في الكنيسة، حسب الطقس السرياني الماروني، بينما كان كل أصدقائي يخدمون في القداس اللاتيني.

كان تاريخي اللبناني ينمو في داخلي دون أن أدركه، وهو ما صقلني لأكون ما أنا عليه اليوم. ربما لم أدرك ذلك في صغري مدى تأثير الإرث اللبناني عليّ لأننّي كنت مجرد فتى أميركي، يتشارك مع باقي الأعراق حياة المجتمع الأميركي.وهويتي  هي مزيج من نشأتي الأمريكية وتربيتي اللبنانية.

أمّا في أمريكا، فقد تعلمت القيم التي تجعل منها بلداً عظيماً، حيث لا يهم من أنت، بل ما يمكنك أن تصبح. وُلدت في عائلة فقيرة، لكنني أصبحت سفيراً للولايات المتحدة وعشت حياة كريمة. هذا لا يحدث إلا في أمريكا، حيث يمكنك أن تسعى لتحقيق طموحاتك..

كما أنّ أميركا أعطتني الفرصة لأفهم تنوّع الشعوب. والمحطة الأبرز في مسيرتي عندما أتيحت لي  فرصة العمل لصالح الحكومة الأمريكية في ملف نزع الأسلحة النووية للإتحاد السوفياتي. عندما انخرطت في هذا العمل، أدركت أنّني أستطيع أن أحقق أفضل تأثير من خلال العمل مع المجتمعات الأخرى.

العودة إلى الجذور: من الفضول الشخصي إلى العمل المؤسسي

- متى شعرت أنّك تريد أن تعرف أكثر عن بلدك الأم؟

نحن كنا مختلفين قليلاً عن الآخرين، فمعظم السكان في البلدة التي ترعرت فيها كانوا من الكاثوليك، فيما نحنا موارنة، ولطالما كنت فضولياً ما جعلني أتساءل عن هويتي منذ طفولتي. ولاحقاً  بدأ إهتمامي الجديّ بالعالم العربي في العام 1972 مع إندلاع أزمة النفط العربية بدأنا ندرك هويتنا العربية، وإثر تعمقي في قضايا الشرق الأوسط، تعرّفت إلى مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان (ATFL).

- أنتَ اليوم تترأس مجموعة العمل الأمريكيةمن أجل لبنان. ما الذي حفّزك للإنخراط في هذا العمل؟

في الماضي، مَن هم من أصل لبناني، كانوا يُصنّفون كسوريين أو أتراك. إلى أن  ظهر برنامج تلفزيوني شهير جداً في الخمسينات  يقدمه النجم من أصل لبناني داني توماس، تحدّث فيه بفخر عن لبنان. ما حفّزنا لندرك لبنانيتنا. وصولاً الى الستينيات، حيث بدأنا في تنظيم أنفسنا كعرب أمريكيين. وعندما تواصل معي مؤسس ATFL، تحمست جداً. واعتبرت أنّ بإمكاني أن أعمل من أجل لبنان من خلال هذه المنظمة. وقد قمت بأول زيارة إلى لبنان في عام 1994 ضمن وفد نظمته المجموعة.

فيما يخصّ تجربتي حين عُيّنت سفيراً في المغرب، لقد شعرت منذ اللحظة الأولى بألفة خاصة، يعود الفضل بذلك إلى جذوري العربية. لكن الركيزة الأساسية لأيّ عمل ناجح في العالم العربي، هي الثقة والمصداقية، فضلاً عن فهم خصوصية الثقافة المحلية، هذا المعايير تشكّل عنصراً حاسماً في النجاح الدبلوماسي.  إنّ العربي لا يحبّ أن يُنظر إليه بازدراء، والعرب يثمّنون الإحترام والتعامل النديّ. وهذان العاملان يسهلان الوصول إلى تسويات معهم.


الدبلوماسية المتغيّرة: من الغطرسة إلى فن الإصغاء

- هل تغير مفهوم الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين مقارنة بفترة الحرب الباردة؟

في فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة قوة متغطرسة تفرض الشروط على الآخرين. وكان العالم ثنائي القطب، إمّا أن تكون معنا أو مع الإتحاد السوفياتي، هذا جعل بعض الأمور أسهل. لكن مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، أصبح العالم متعدّد الأقطاب. كان علينا أن نتعلم الأخذ والعطاء، وأن نستمع أكثر. أمريكا تهتم بالقضايا الكبرى مثل السلام الإقليمي وتغيّر المناخ، وإبرام صفقات تجارية كبرى. لكن في الوقت نفسه علينا أن نطلب من الدول دعمنا في القضايا العالمية، وهم في المقابل، بحاجة الى مساعدتنا في حلّ قضاياهم الداخلية، لذا تعلمنا أنّه لكي نحصل على ما نريده، يجب أن نستمع باحترام لما يريده الآخرون، وحينها نصل الى تسويات.

لبنان على مفترق طرق: بين فرصة تاريخية ومسار إنحداري

- هل هذه المرحلة في لبنان واعدة؟ أم إستكمال لمسار إنحداري على المستوى السياسي والإقتصادي؟

المنطقة ككل دخلت في مسار جديد، نأمل أن تكون إيجابية، هناك الكثير يجب القيام به، والوقت ليس لصالح لبنان، سوريا تتحرّك بسرع لإعادة بناء نفسها، والأوضاع في فلسطين تتغيّر. والشرق الأوسط يشهد تحوّلات كبيرة، لبنان لا يستطيع أن يتخلف عن هذا المسار، وعليه أن يتابع الزخم الذي بدأه العام الفائت، وقد لمست فهماً واضحاً لهذه الحقيقة لدى المسؤولين.

- في ظلّ الغموض في المواقف بعد الحرب الأخيرة، كيف تنظر إلى مستقبل لبنان؟

لبنان أمام مسارين؛ الأول، شبيه بالذي مرّ به في العام 2006 ، حيث كانت الآمال بولادة جديدة، ولكن للأسف لم تتحقّق. والثاني، فهو المسار التاريخي الذي شهدناه العام الماضي، من ناحية ترسيم الحدود البحرية، وإتفاق وقف إطلاق النار، ورأينا رئيساً يتحلى بالنزاهة، إلى جانب رئيس حكومة يتمتع بالكفاءة، وحكومة تكنوقراط، وهذا لم يشهده لبنان منذ سنوات. ولكن لا بدّ أن يستمر هذا الزخم. لقد لمست في لقاءاتي العديدة أنّ هناك عزماً على نزع السلاح واستعادة السيادة الوطنية، والمضيّ قدماً بالإصلاحات والتغيير.

وفي ما يتعلق بالإعتداءات الإسرائيلية المستمرة والتهجير، إنّ الشهور المقبلة ستكون حاسمة، خاصة بالنسبة لقيام لبنان بتعهداته في استكمال نزع السلاح من جنوب الليطاني، عندئذ ستقوم الولايات المتحدة بدورها، من ناحية تقديم 200 مليون دولار لدعم الجيش اللبناني، وضمان إلتزام الجانب الإسرائيلي بالإتفاق، وهو الإنسحاب الكامل، ومن ثم العمل مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج لعقد مؤتمر الدول المانحة، لدعم الجيش وإعادة الإعمار. لكن هذا لن يتحقّق إن لم يتمّ نزع السلاح، والتقدّم الملموس في الإصلاحات.


بناء الجسور: الثّقة والإحترام كأسس للعلاقات

- كيف يمكن للولايات المتحدة أن تكون شريكاً عادلاً بعيداً عن الوصاية؟

يجب على الولايات المتحدة إحترام إحتياجات العلاقات الثنائية التي تربطها بكل دولة، ما الذي ترغب هذه الدول في تحقيقه. لا يمكن أن تكون أحادية الجانب، مثلاً، في لبنان الحل ليس عسكرياً بل متعدّد الجوانب، ويمكن لأميركا أن تلعب دوراً قيادياً في حشد المجتمع الدولي، ليس فقط في احتياجات الأمن، بل الإصلاحات، واحتياجات الشعب وإحلال السلام في المنطقة، لذلك على أميركا أن تدرك أنّها لا تستطيع توجيه الإتهام الى لبنان فقط، بل عليها أن تدرك دورها كقوة قيادية عالمية، وأن تضمن مساهمة الدول في رفاه واستقرار المنطقة، ومن مصلحتها القيام بذلك.

 - هل العلاقات الأميركية - العربية تنقصها الثقة أم الخيال السياسي؟

الثقة في المقام الأول، لن يكون هناك أي حلّ نهائي للمشكلات بين لبنان وإسرائيل، أو بين سوريا وإسرائيل، وبين دول الخليج ولبنان ما لم تكن الثقة متبادلة. إنّ فشل إتفاقيات السلام بين فلسطين واسرائيل في الماضي يعود الى غياب الثقة المتبادلة.


- مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان، الى جانب عملها الإنساني خاصة بعد إنفجار مرفأ بيروت، هل صوتها مسموع عند الأطراف اللبنانية؟

نحن نعمل على تعزيز العلاقة بين لبنان والولايات المتحدة، هناك قيم ومصالح مشتركة بينهما. ونرى أنّ كلا البلدين يمكن أن يتعلّم من الآخر. نحن في موقع يتيح لنا التأكد أنّ هناك صوت يمثل مصالح لبنان في واشنطن. لبنان بلد صغير وقد يضيع في انشغالات الرئيس والكونغرس مع دول أخرى. نحن بات لنا صوتاً مسموعاً ونحظى باحترام الإدارة والكونغرس، وعملنا يتطلب منا المجيء الى لبنان لنتمكّن من الإستماع والتعلّم من كلا الجانبين معاً. وهذا يعزّز ما ندافع عنه، نساعد في تثقيف الأميركيين حول لبنان، وأيضاً تثقيف اللبنانيين حول مصالح أميركا، ما جعلنا من أقوى الأصوات العرقية في أميركا.

- كيف تنظر الى طريقة تعاطي وسلوك المبعوثين الدبلوماسيين الأميركيين إلى لبنان في الفترة الأخيرة؟

أعتقد أنّ مبعوثي ترامب إلى لبنان يريدون النجاح من أجل بلادهم، وأيضاً من أجل لبنان. وأظن أنّهم دفعوا الأمور إلى الأمام.

كما أنّ الدبلوماسية اللبنانية أثبتت حضوراً منذ العام الماضي عبر إتفاق وقف إطلاق النار وإنتخاب رئيس للجمهورية، ودعم الولايات المتحدة كان جلياً.

الخلاصة: الصدق والتواضع في خدمة القضايا الكبرى

- كيف تحافظ على هدوئك وسط كل هذا الضجيج؟ وهل أنتَ على مسافة واحدة من الجميع؟

أولاً، أنا رجل معتدل، لا أحب التطرّف، دائماً ما أبحث عن حلول وسطية، وعن التقدّم الى الأمام، وتسهيل الأمور، وهذا من مفاتيح الدبلوماسية الجيدة. ثانياً، على الدبلوماسي ألا يعتقد أنّه أذكى شخص في الغرفة، حينها، سيقع في فخ إختيار الأشخاص الخطأ، القدرة هي أن نحيط أنفسنا بأشخاص أذكى منا. كما أنّ التمتع بمهارات الإصغاء شرط للتحرّك في الإتجاه الصحيح.

في المحصلة، إدوارد غبريال يختار الصدق مقروناً بالتواضع، على البراغماتية، لأنّه وسيلة لبناء الثقة، إذ حين لا ينشغل الإنسان بإرضاء غروره يتمكن من خدمة القضايا الكبرى وحلّ المشكلات العالمية وهذا ما يميز الرجل الصالح.