بيان من طرف واحد... مراوغة جديدة في أزمة أراضي الديمان؟

بيان من طرف واحد... مراوغة جديدة في أزمة أراضي الديمان؟

  • ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

قضية أراضي الديمان ليست جديدة. فهي تعود إلى أكثر من قرن، وتتعلق أساساً بمسألة ملكية الأراضي والبيوت التي يشغلها الأهالي منذ نحو ثلاثة قرون.

صدر مساء أمس بيان حمل توقيع «لجنة متابعة ملف التمليك في الديمان»، أعلن أنّ العمل يجري «برعاية مباشرة من غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي» على فرز بيوت الديمان وتمليكها لأصحابها بسعر رمزي، إستناداً إلى «مبادرة البطريرك نصرالله صفير عام 1986»، مشيراً إلى إنجاز فرز ثلاثة عقارات بعد موافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني.
البيان، شدّد على أنّ العلاقة بين البطريركية المارونية وأهالي البلدة «رعوية يسودها الوئام والمحبة»، نافياً ما تم تداوله عن بيع أراضٍ في الديمان، ومؤكداً أنّ «ما جرى يُعالج بروح الوفاق والتفاهم التي تعيد لكل صاحب حقّ حقّه».
لكنّ اللافت أنّ هذا البيان صدر من طرف واحد فقط، رغم أنّه كان يفترض أن يكون ثمرة اجتماع مشترك بين ممثلي البطريركية المارونية ولجنة الأهالي المعنية بملف التمليك. غياب أي توقيع أو تعليق رسمي من ممثلين عن المجلس الإقتصادي الرعوي في الديمان أثار موجة من التساؤلات في البلدة: هل يمثل هذا البيان فعلاً ما جرى الإتفاق عليه، أم أنّه محاولة لتهدئة الأزمة إعلامياً دون الوصول إلى حلول فعلية؟

جذور الخلاف
قضية أراضي الديمان ليست جديدة. فهي تعود إلى أكثر من قرن، وتتعلق أساساً بمسألة ملكية الأراضي والبيوت التي يشغلها الأهالي منذ نحو ثلاثة قرون. أبناء البلدة يعتبرون أنّهم سكنوا هذه الأراضي وعمّروها جيلاً بعد جيل، وأنّهم أصحاب حقّ أصيل فيها، بينما ترى البطريركية المارونية أنّ الأرض وقف كنسي تابع للكرسي البطريركي، وأنّ إشغالها من قبل الأهالي لا يمنحهم حقّ التملك القانوني.
وبحسب متابعين للملف، فإنّ جذور الإشكال تعود أيضاً إلى قرار صادر عن الفاتيكان يمنع بيع أملاك الكنيسة المارونية بشكل نهائي، حفاظاً على طابعها الوقفي والديني. إلا أنّ هذا المنع دفع البطريركية إلى اللجوء إلى صيغ قانونية بديلة، أبرزها عقود الإيجار طويلة الأمد التي تمتد لعشرات السنين، وتمنح حقّ الإنتفاع بالأرض واستثمارها من دون نقل ملكيتها.
هذه العقود، التي تُبرَم مع أفراد أو مستثمرين من خارج البلدة، أثارت قلقاً واسعاً بين أبناء الديمان الذين يرون فيها بيعاً مقنّعاً وتفريطاً تدريجياً بأراضيهم، خصوصاً أنّ بعضها يشمل مساحات واسعة كانت تاريخياً موضع شراكة بين الأهالي والبطريركية. ويرى هؤلاء أنّ هذه الخطوة، وإن جاءت إستجابة للقيود الفاتيكانية، تحمل في طيّاتها خطراً على هوية البلدة ومستقبلها الزراعي والإجتماعي.
وفي محاولة لتسوية هذا الخلاف التاريخي، أطلق البطريرك الراحل مار نصرالله صفير عام 1986 مبادرة تمحورت حول تمليك البيوت المشغولة لأصحابها بسعر رمزي. المبادرة رحّب بها الأهالي في حينها، لكن نتج عنها شيء جزئي يتمثل بتملك عدد قليل من الأهالي ما أبقى الملف عالقاً لعقود طويلة.
منذ ذلك الحين، تجدّد الجدل كلما أعلنت البطريركية نيّتها فرز الأراضي أو تأجيرها أو استثمارها، خصوصاً في ظلّ غياب إتفاق واضح يحدّد حقوق كل طرف. ومع مرور السنوات، باتت القضية أكثر تعقيداً نتيجة توسّع البلدة، وازدياد عدد أبنائها المقيمين والمغتربين، وظهور أجيال جديدة تطالب بحقوقها التاريخية في التملك والبناء.

الأزمة الحالية
الشرارة الأخيرة إندلعت في الأسابيع الماضية بعد أن تمّ التداول بمعلومات عن عقود تأجير جديدة شملت أراضي «تعود بشراكة إلى أبناء من الديمان»، وفق ما قالت لجنة الأهالي. هذه الخطوة اعتُبرت من جانب الأهالي «تعدّياً على الشراكة التاريخية»، ودفعتهم إلى التحرّك العلني والمطالبة بـ«إيقاف أي خطوات أحادية» وبـ«توضيح رسمي من البطريركية حول مصير الأراضي المؤجرة».
بموازاة ذلك، بدأت البطريركية، بحسب البيان الصادر أمس، العمل على فرز بيوت الديمان وإتمام عملية التمليك ضمن ما سُمّي «استكمالاً لمبادرة صفير». إلا أنّ اللافت، بحسب مصادر متابعة للملف، أنّ آلية الإفراز الجديدة ما زالت غامضة، ولم تُعرض الخرائط أو لوائح التسعير على الأهالي كافة، ما جعل الحديث عن «تمليك فعلي» يبدو حتى الآن في إطار التصريحات العامة غير الموثقة.
البيان أشار إلى أنّ «الاتفاق» تم مع «المجلس الإقتصادي الرعوي في الديمان»، ممثلاً بالنائب السابق جوزيف إسحق وبالمحامي ميلاد جبرايل، وبتكليف من المطران جوزيف نفاع، الذي يتابع الملف منذ سنوات. وجاء في البيان أنّ الجهود تتركز على:
1. حفظ حقوق أهالي الديمان في جميع البيوت والأراضي التي يشغلونها منذ مئات السنين.
2. إعداد خريطة تفصيلية لبيوت وأراضي البلدة وتحديد أسماء أصحاب الحقوق
3. معالجة مسألة التأجير الأخيرة بروح التعاون.
4. إيجاد صيغة قانونية تحفظ حقوق المزارعين في جرد الديمان.
لكنّ غياب توقيع ممثلين عن المجلس الإقتصادي الرعوي في الديمان أو أي تأكيد رسمي منه على ما ورد، جعل هذه النقاط تبدو كوعود متجددة أكثر منها إتفاقاً ملزماً، خصوصاً أنّ الأهالي كانوا قد أعلنوا في وقت سابق أنّهم ينتظرون وثائق رسمية وخرائط واضحة قبل القبول بأي صيغة نهائية للفرز أو البيع.

بين الوعد والواقع
تاريخياً، طالما رافقت الوعود بحلّ هذه القضية أجواء إيجابية مشابهة، إلا أنّ أي تقدّم ملموس لم يتحقّق فعلاً. فحتى اليوم، لم تصدر سندات ملكية تثبت التمليك، ولم يعلن عن لوائح رسمية للأراضي المشمولة أو أسعارها الرمزية. كما أنّ المجلس الأعلى للتنظيم المدني وافق فقط على فرز ثلاثة عقارات، ما يعني أنّ الطريق إلى التمليك الكامل لا يزال طويلاً.
في المقابل، تقول مصادر كنسية إنّ البطريركية «تسعى فعلاً إلى حلّ منصف يحفظ كرامة الأهالي وحقوق الكنيسة في آن»، وإنّ الخطوات الجارية «تتم بتأنٍّ لتفادي أي خطأ قانوني قد يفتح الباب أمام نزاعات مستقبلية». إلا أنّ هذه المقاربة الحذرة تُقابلها نظرة متوجسة ، إذ يخشى البعض من أن يكون كل هذا الحذر ذريعة جديدة للتأجيل والمماطلة.

وبين وعود قديمة تتجدّد كل بضع سنوات، وخطابات تهدئة لا ترافقها قرارات عملية، تبقى قضية أراضي الديمان معلّقة بين الماضي والحاضر، عنواناً مفتوحاً على كل التأويلات.
فهل تكون هذه المرة مختلفة، أم سيبقى الملف حبيس الطاولات والبيانات، ينتظر مبادرة جديدة… وبياناً آخر من طرف واحد؟