إلى أورشليم ذاهبون...
إلى أورشليم ذاهبون...
سيظلّ السلام، هو الإنتصار الحقيقي الوحيد، الإنتصار الذي لا يرصده رادار، ولا يحدده جيش، بل يقاس بمدى عمق الإنسان في إدراكه لقيمة الحياة، الرحمة، والقدرة على اللقاء.
ماذا سيذكر التاريخ عن هذه الرحلة، عن هذا المسار الذي بدأه لبنان وسوريا مع إسرائيل، وعن الإعلان البابوي الذي أضاء الطريق نحو السلام؟ سيذكر أنّ هناك زمناً بدأ يتشكل فيه معنى أعمق للسلام، زمناً يتجاوز كل الشعارات الحزبية، كل السرديات المعلبة عن المقاومة والممانعة، وكل الصواريخ التي غرقت الأرض بالدماء والخوف. سيذكرنا أنّ هناك من أدرك أخيراً أنّ المعركة الحقيقية لم تعد مع الإسرائيليين أو أي قوة عسكرية، بل مع الجهل والكراهية والخوف والحقد الذي تراكم في النفوس لعقود طويلة.
لقد عرفنا الحروب. عرفنا أنصاف الإنتصارات وأرباعها، وأنّ السلاح لا يخلق إلا الخراب. لقد حاولت القوى المسلحة في لبنان وسوريا، وعلى رأسها «حزب الله» وغيرهم من منظمات العنف، إقناعنا بأنّ القوة هي الطريق، وأنّ الصراع المستمر هو ما يحفظ الكرامة والسيادة. لكن الواقع كشف على أنّ يعكس هذه الترّهات التي عاشت لسنوات في أدبياتنا السياسية. لا الصواريخ، ولا الحصون، ولا الشعارات، ولا المراسم العسكرية، قد جلبت أي السلام، ولم تجعل الأرض أكثر أماناً، ولم تزرع في القلوب الأمل.
لقد شاهدنا كيف أنّ السرديات عن «المقاومة» وعن «الإنتصار» باتت فارغة من المعنى حين ينهار الواقع أمامها. كيف تبقى الأرض منهكة، والناس عاجزين عن الحياة الطبيعية، بينما يفتخر البعض بقدرة محدودة على إطلاق صواريخ تصيب أو لا تصيب، وكأنّ هذا هو مقياس العظمة، وكأنّ الفخر يرتبط بالدم والدمار وحده. أما أورشليم، فهي لم تعد تنتظر الصواريخ، بل تنتظر العقول والقلوب، تنتظر الذين يفهمون أنّ المعنى الحقيقي لا يُقاس بالقوة، بل بالقدرة على اللقاء، على التسامح، على الإعتراف بالآخر، على إعادة الإنسان إلى مكانه الطبيعي ككائن قادر على الحب أكثر من الكراهية.
والآن، تأتي فكرة زيارة أورشليم الرائجة في لبنان هذه الأيام، والتي ذكرها البابا لاوون الرابع عشر في حديثه في تركيا، حين أكد تنظيمه لقاءً مسيحياً جامعاً في أورشليم عام 2033، في الذكرى الـ2000 على تجسّد المسيح، وكأنّها الضوء الذي يختبر قلوب البشر، ويعيد التذكير بأنّ أورشليم ليست ملكاً لطائفة أو حزب، بل هي رمز للإنسانية الجامعة، للأديان التي تشترك في الجذر، وللتاريخ الذي شهد معاناة البشر وأحلامهم.
المسيحيون لهم الحق في الوقوف على أماكن حياة المسيح وموته وقيامته، كما أنّ المسلمين لهم الحق في الصلاة والتأمل في القدس الشريف، حيث تختلط الرموز وتتلاقى القيم الروحية، وتعلو فوق الحقد والإنتقام. لقد آن الأوان لأن ندرك أنّ تلك المدينة ليست مجرد قطعة أرض، بل قلب حيّ ومزار تاريخي، ينبض بالقيم العليا، وبالقدرة على التواصل بين البشر، لا على الانقسام بينهم.
لبنان وسوريا، في خطواتهما التفاوضية الأخيرة مع إسرائيل، يرسخان رسالة أكبر من مجرد مصالح سياسية ضيقة. إنّهما يؤكدان أنّ السلام ليس رفاهية، بل قضية روحية وأخلاقية، أسمى من أي حسابات حزبية أو مناطقية. فالأرض لم تعد بحاجة إلى مدافع أو صواريخ لتثبت حقها، بل إلى قلوب حاضرة، إلى إرادة حقيقية للعيش المشترك، إلى شجاعة الإعتراف بالآخر والتعاون معه. إنّها رسالة تقول إنّ القوة لا تخلق الأمن، وأنّ الحروب لم تنجح أبداً في حماية البشر، بل غيّبتهم خلف أصوات الإنفجارات وشظايا الخراب.
ما يفعله اللبنانيون والسوريون اليوم هو محاولة لإعادة قراءة التاريخ نفسه. إنهم يعلنون أن الحرب مع إسرائيل باتت من الماضي، وبأنّ القدس ليست ساحة حرب بعد الآن، بل مساحة للتلاقي والإعتراف بالآخر. إنّهم يعلنون أنّ المستقبل لن يُبنى على الإنقسام والتهديد بالقوة، بل على إرادة مشتركة تحمي الإنسان قبل الأرض، والروح قبل الحدود، والحق قبل الدم.
إنّها أيضاً محاولة لإعادة الإعتبار للإنسان اللبناني والسوري، وللشعوب العربية بأكملها. لقد طال إنتظارهم، لقد طال إنتظار أن يُفهم أنّ غزة، والقدس، ولبنان، وسوريا، ليسوا فقط رقعاً على خريطة سياسية، بل شعوب تحمل الحق في العيش الكريم، والرفاهية، والاطمئنان.
مخطئ من يظن أنّ الدفاع عن الأرض يكون بالسلاح وحده، وأنّ الهجوم على الآخر هو الطريق للحفاظ على الكرامة. الحقيقة تقول إنّ السلام، لا الحرب، هو المقياس الحقيقي للشجاعة والكرامة.
أورشليم/القدس بهذا المسار تصبح جسراً، لا حائطاً. جسراً بين الطوائف، بين الشعوب، بين الأجيال. جسراً يعلو على كل خطاب حربي، وكل محاولة للهيمنة بالقوة، وكل سعي لتقاسم الخوف بدلاً من المحبة. لبنان وسوريا، والكنيسة والمجتمع الدولي، يخطون معاً على هذا الجسر، متحدين بفكرة أنّ السلام ليس خياراً ثانوياً، بل الهدف الأسمى لكل دين، لكل سياسة، لكل مقاومة.
سيذكر التاريخ أولئك الذين اختاروا الرحلة، لا القتال. سيذكر من اختاروا التلاقي على الإنقسام، والحب على الكراهية، والحياة على الخراب. وسيظل السلام، بهذه الرحلة، هو الإنتصار الحقيقي الوحيد، الإنتصار الذي لا يرصده رادار، ولا يحدده جيش، بل يقاس بمدى عمق الإنسان في إدراكه لقيمة الحياة، الرحمة، والقدرة على اللقاء.
إلى أورشليم ذاهبون، إذن. فطوبى لفاعلي السلام!

