من هتلر إلى الحزب.. غرور الإنتصار وصناعة الهزيمة
من هتلر إلى الحزب.. غرور الإنتصار وصناعة الهزيمة
التاريخ يقدّم درساً واحداً لا يخطئ، فهو أنّ الإنكار لا يؤجل السقوط بل يسرّعه
"أودّ أن أؤكّد للعالم أجمع أنّ أحداث تشرين الثاني 1918 لن تتكرّر أبدًا في التاريخ الألماني". بهذه الثقة المفرطة خاطب أدولف هتلر شعبه والعالم عقب الإنتصار السريع على فرنسا عام 1940. فقد حقّق سلسلة مكاسب عسكرية لافتة من إجتياح بولندا إلى إنهيار الجبهة الفرنسية، وظهر وكأنّه يعيد تثبيت موقع ألمانيا في النظام الدولي. غير أنّ هذه النجاحات الأولى أقنعته، قبل خصومه، بصورة متخيّلة عن قوّة لا تُقهَر، فقادته نزعة الغرور وإنكار الواقع ومعه المجتمع الألماني بأسره إلى الإنحدار نحو الكارثة. ولعلّ عبارته الشهيرة قبيل الهجوم على الإتحاد السوفييتي، "ما علينا إلّا أن نركل الباب وسينهار البناء بأكمله"، تختزل عقلية لم تُدرك حدود قدرتها الفعلية؛ وهي عقلية نجد صداها لدى قيادات معاصرة.
في سياق موازٍ، أعلن حزب الله في مطلع القرن الحادي والعشرين "إنتصاره" بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، ثم أعاد تأكيد "الإنتصار" عقب حرب عام 2006 وما سُمّي بـ"مجزرة الميركافا". هذه الرواية الإنتصارية، في مراحلها الأولى، تشبه إلى حدّ بعيد خطاب النصر المبكر في التجربة النازية. ومع مرور الزمن، تسرّبت إلى خطاب قيادة الحزب نزعة مشابهة للثقة المطلقة، خصوصًا مع عبارة السيد حسن نصرالله الشهيرة بأنّ "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت". هنا تتبدّى أولى نقاط التشابه، الغرور بوصفه آلية لإخفاء هشاشة الإدراك الاستراتيجي، وإنتاج وهم يُعمي عن قراءة الوقائع كما هي.
لكنّ خطورة التشابه تتجاوز اللغة لتصل إلى طريقة إدارة المعركة. فكما تحوّلت معركة ستالينغراد الى هزيمة كبرى بسبب أوامر هتلر الشهيرة، "ممنوع الإنسحاب". وهو ما أدّى إلى انهيار الجيش الألماني، عبر موجات الإنتحار والاستسلام والخيانة، قبل أن تتراجع القوات النازية تدريجيًّا وصولاً إلى سقوط برلين على يد السوفييت. وعلى الرغم من انهيار كل القدرات العسكرية، ظلّ هتلر متأكّدًا أنّ النصر آتٍ، حتى عند وصول القوات السوفييتيّة إلى محيط مقرّه وانتحاره في 30 نيسان 1945، مفضّلًا النهاية على الاعتراف بالسقوط.
وفي الحالة اللبنانية، بدا المشهد موازياً، ففي 8 تشرين الأول 2023، دخل حزب الله حربًا شاملة دعمًا لحركة حماس، زاجّاً الشعب اللبناني كلّه في المواجهة، من عمليات الإغتيال المتكررة، وتدمير القرى الجنوبية، واستهداف قياداته، فكان مشهدًا مشابهًا للسقوط النازي. ومع ذلك، يستمر الشيخ نعيم قاسم، يكرّر العبارات نفسها، "نحن أمام انتصار كبير"، بلهجة يقينية، ومثلما رفض هتلر الإعتراف بأنّ معركته انتهت، بدا أنّ قيادة الحزب تقابل كل ضربة بخطاب أكثر حدّة، حتى أصبح الإنكار بحدّ ذاته سياسة حرب.
وعلى الرغم من قبول الحزب باتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، الذي نصّ بوضوح على نزع سلاح جميع المجموعات المسلّحة، عاد الشيخ نعيم ليعلن في 14 آب 2025؛ "لن نسلّم السلاح وسنخوض معركة كربلائية إذا لزم الأمر". هذا الإصرار لا يؤجّل السقوط، بل يسرّعه. هكذا يتحوّل العناد إلى عبء يعيد إلى الأذهان لحظة قرار هتلر القتال حتى الموت.
وفي 23 تشرين الثاني 2025 باغتت إسرائيل الضاحية الجنوبية باغتيال رئيس أركان حزب الله هيثم علي الطبطبائي، خليفة القيادي البارز الراحل في الحزب فؤاد شكر. تكررت مشاهد حرب الـ 66 يومًا الى أذهان اللبنانيّين، وبدأت التساؤلات؛ هل أدّت أوامر "عدم الإنسحاب" إلى الخيانة وتسليم الطبطبائي؟ الأهم، هل يدرك نعيم قاسم أنّ الطريق الذي يسلكه يقود إلى النهاية نفسها التي عاشتها النازية؟ أم أنه يفضّل السيناريو الهتلري، الإنتحار بدل الإعتراف بالسقوط؟

