تقترن تلك التصريحات بكسر قواعد الإشتباك عبر تغلّغل القصف الإسرائيلي إلى الداخل اللبناني. ليشي هذا المشهد بأنَّ العدو يتحضّر لإشعال الجبهة الشمالية. وحجته لفعل ذلك تتكرّر يومياً على لسان المسؤولين الإسرائيليين وبعض الأميركيين. ومفادها ضمان منطقة منزوعة السلاح بين إسرائيل و«حزب الله»، تمتدّ لحوالي الأربعين كيلومتراً، لإعادة الطمأنينة إلى أكثر من 80 ألف إسرائيلي عاشوا قبل «طوفان الأقصى» في 43 مستوطنة إسرائيلية أُخليت تدريجياً. ولايزال أهلها يرفضون العودة بتاتاً ممَّا يشكل عبئاً كبيراً على «نتنياهو» الذي دخل في دوامة تُهدّد مستقبل «دولة اليهود» التي أسسها بن غوريون بالسّيف والإضطهاد
وفي تغطية صحافية ميدانية حول هذا الملف، أجراها الصحافي البريطاني المُتخصّص في الشؤون العسكرية والدفاعية «أليستر بونكال» في مقالة نُشرت مؤخراً على موقع «سكاي نيوز» الأميركي ، وقد حاور جنوداً وضباطاً إسرائيليين تبيّن له أنَّ التحضيرات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان تجري تحت قاعدة واحدة قائمة على أنَّ الحرب في تلك الجبهة آتية لا محالة. بناء على تأكيدات من أحد الضباط الذي إعتبر ميزان القوة بين «حزب الله» وإسرائيل يختلف عما هو بين إسرائيل و«حماس»، مؤكّدا أنّ إسرائيل ستُطبّق قرار 1701 وأنَّ الجيش يمتلك معرفةً كاملة «بالفرق» بين «حزب الله» و«حركة حماس». إذ إنَّ الحزب أكثر تنظيماً وصرامة في القتال وأكثر تسلُّحاً. ومما لا شك فيه أنّ هيئة الأركان الإسرائيلي على قناعة تامة بإنتصارها في نهاية المطاف، بحسب ما نقل الصحافي «بونكال» عن الضباط الذين إلتقاهم على الجبهة الشمالية خلال إجراء الجيش الإسرائيلي لمناورات هناك.
العين الإسرائيلية على جبهة الشمال
إلى ذلك، قال قائد سلاح الجو الإسرائيلي «تومر بار» أمس الجمعة في تصريح له: «حينما نتلقى الأوامر ، ستتضاعف عشرات الطائرات التي تُحلّق اليوم في سماء الجنوب اللبناني إلى 100 طائرة حربية يمكنها تنفيذ المهمة خلال دقائق قليلة من بدء المهمة، في قصفٌ هائلٌ على لبنان في صور وصيدا وبيروت والبقاع». كلام «بار» هذا أتى بعد أن أكَّد وزير الدفاع الإسرائيلي «يوآف غالانت» مطلع الأسبوع المنصرم أنَّ الجيش الإسرائيلي لن يُوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية حتى ولو تمّ الإتفاق مع حركة حماس على هدنة في غزة.
صورة نشرها الصحافي البريطاني المتخصص بالشؤون العسكرية والدفاعية خلال مقابلته لضباط وجنود إسرائيليين أثناء قيامهم بمناورات على الجبهة الشمالية بتاريخ 5 شباط 2024
إبحثوا عن «بن غفير»
تربط الصحافة الإسرائيلية، ومنها في مقالات عدة في صحيفة «الهآرتس»، إنّ تصاعد المواقف المتطرفة لدى المسؤولين الإسرائيليين،عائد إلى تنامي سلطة اليمين الراديكالي على وقع التأثير الشعبي الإسرائيلي به، لاسيّما اليوم. ويأتي في طليعة تلك الأصوات الأخطر على الفلسطينيين واللبنانيين، صوت وزير الأمن القومي الإسرائيلي «إيتمار بن غفير» الذي يفوق «نتنياهو» و«غالانت» تشدّداً وعنفاً والمفارقة الغريبة أنّه يتهمهما بالمرونة والضعف و«تناسي من هو العدو الفعلي»، كما إنتقد «غالانت» في تغريدة له مؤخراً لإصداره مذكرة إعتقال بحقّ أحد المستوطنين الإسرائيليين في منطقة بنيامين الواقعة في القسم الجبلي الشمالي من الضفة الغربية.
بن غفير المتطرف الذي لم يُقبل بالجيش الإسرائيلي في شبابه، نصب نفسه مراقباً ومعارضاً شرساً لأي مسؤول إسرائيلي «يتساهل» في الحرب ضدَّ «حزب الله» أو «حركة حماس». فمن هو «بن غفير»؟
«بن غفير» مُسلّح المستوطنين والمُحرّض على قتل «رابين »
«طرد اليهود من بيوتهم يُضر بقيمة الدولة أما طرد غيرهم فهو أمر مختلف تماماً، أرغب بتعييني وزيرا لتشجيع الهجرة الجماعية للمسلمين من إسرائيل، ويجب دفع الفلسطينيين خارج أرضنا عبر خطط مُحكّمة». هذا نموذج من أقاويل تعكس شخصية «بن غفير» مدفوعاً بنزعة فوقية وإقصائية تتابع أهدافاً توسعيّة عدوانية تغذيها أوهام فكرة «شعب الله المختار».
ترعرع «إيتمار بن غفير»، وزير الأمن القومي الإسرائيلي في حكومة «بنيامين نتنياهو» الحالية، في الأزقة المتهالكة في ضواحي القدس. من أب يهودي عراقي عمل في التجارة مع أحد أكثر العصابات الصهيونية تطرفاً المعروفة بـ «الأرغون» والتي كانت تُنفذ عمليات قتل وتخريب بحقّ الفلسطينيين منذ ما قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. وكانت أمَّه جزءًا من تلك العصابة.
لم يكن والدا «بن غفير» يُصوتان لليمين الإسرائيلي المتطرف. بل كانا مثل معظم اليهود العرب أقرب إلى الحركات اليساريّة. إلّا أنّ إيتمار إستماله الفكر اليهودي المتطرّف والتيارات الراديكالية التي تدعو لتصفية العرب منذ أن كان في سن العاشرة.
تقول الوثائق التي نُشرت عنه مؤخراً في الصحف الإسرائيلية أنّه كان فتىً متشدداً دينياً. وهو في سن الرابعة عشرة إستفزته الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي إندلعت في كانون الأول من العام 1987 وصمّم مذ ذاك الحين على وضع «حدّ للفلسطينيين».
خلال تلقيه تعليمه الثانوي إنضم «بن غفير» إلى حركة «كاخ» المتطرفة التي أسسها الحاخام «مائير كاهانا»، الشخصية اليهودية الأميركية التي كانت ولاتزال من أشدّ المدافعين عن اليهود والمُشجعين على إبادة الفلسطينيين. وسرعان ما تدرّج داخل تلك الحركة المتطرفة التي دعت لممارسة أعلى درجات الوحشية مع العرب.
لمع نجمه في العام 1995، في أعقاب توقيع الرئيس الإسرائيلي السابق إتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية. حينها إعتبر المتطرفون الإسرائيليون أنَّ ذلك الإتفاق ليس إلّا خيانة لإسرائيل وخسارة لها، وكان «بن غفير» من الشبّان الذين قادوا أعمال الشغب حتى أنَّه هجّم في إحدى المرات على سيارة «إسحاق رابين» وإنتزع شارتها. متوجهاً إلى الكاميرات يومها قائلاً: «كما وصلنا إلى سيارته سنصل إليه» مهدداً «رابين» بالقتل، قبل أن يُقتل الأخير على يد المتطرفين من أمثال «إيتمار بن غفير» بعد أشهر قليلة.
درس «بن غفير» المحاماة، وأصبح أكثر المحامين في البلاد حماساً في حماية كل من يُنكل بفلسطينيي الضفة الغربية. دافع ولايزال عن كل العمليات الإستيطانيّة أينما وكيفما حصلت. حتى أنَّه إمتهن قيادة الساحة الإسرائيلية المتطرفة بكلّ تياراتها وحركاتها إذ يضع خطط عمل للإسرائيليين لتهجير الفلسطينيين عبر التحايل على القوانين التي تضع شبه حدّ لذلك. ويُنقل عنه قوله للمتشدّدين: إنّنا نريد قتل الإرهابيين لا العرب. لتبرير جرائم المستوطنين».
يعزف «بن غفير» على الوتر الديني الذي يشهد في السنوات الأخيرة رواجاً كبيراً داخل إسرائيل وقد سوَّق لنفسه على أنَّه اليهودي الأرتوذوكسي المُتديّن الذي يُسرّع عودة «المسيح المُخلّص».
دخل عالم السياسة من بابها العريض في حكومة «بنيامين نتنياهو» الأخيرة. وأولى خططه كانت تسليح الإسرائيليين في الضفة الغربية والدفاع عن كل إسرائيلي يبصق بوجه الفلسطينيين. وقد كثّف من حملة تسليح المستوطنين بعد السابع من أكتوبر بدعم من «نتنياهو» الذي بات اليوم أسير «بن غفير» المُتطرف الذي يشبه ويُمثّل حقيقة الإسرائيليين.
و في وثائق سربتها مؤخراً عضو الكنيست الإسرائيلي المعارضة لليمين «شيلي يحيموفيتش» كشفت أنَّ «بن غفير» قد أمر الشرطة الإسرائيلية بعدم ملاحقة أي إسرائيلي يعتدي على فلسطينيّ بالسلاح أو ينتهك ممتلكاته.
بإختصار، يبقى «بن غفير» عيّنة من قادة إسرائيل الأكثر قبولاً وإحاطة من الشعب. ليصبح الجنون الإسرائيلي مضاعفاً ومفتوحاً على كلّ الإحتمالات في غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني. وهو شخصية تثير شكوكاً حتى من قادة الكيان حسب ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق «إيهود أولمرت» عن «بن غفير» يوم وصفه بالخطر الوشيك على إسرائيل الذي يفوق خطر إيران المُسلّحة نووياً.