الفاتيكان.. بين الأخبار المضلّلة ودقّة النّص
لا بدّ من تسليط الضوء على دور وسائل الإعلام الحديثة للسيطرة على الشعوب عبر وسائل واستراتيجيات مختلفة، وبحسب المفكر نعوم تشومسكي، أنّها لإستثارة العاطفة بدل الفكر. ولتعطيل التّحليل المنطقي، والحسّ النقدي. كما أنّ إستعمال المفردات العاطفيّة يمرّ عبر اللاوعي ليرسّخ أفكاراً، ورغبات، ومخاوف، ونزعات، أو سلوكيّات.
وهي إستراتيجية إلهاء الناس بالأخبار والشائعات والمشاكل غير المهمة، والكثير من القضايا قد تخضع لتفسيرات عشوائية لأسباب مختلفة تفتقد الى القراءة المتأنية.
في هذا الإطار إلتقت «بيروت تايم» الأب دومينيك الحلو المتخصّص والباحث في اللاهوت بهدف شرح مضمون الوثيقة المتعلقة بموقف الكنيسة الكاثوليكية من مسألة المثلية.
يلاحظ الأب حلو أنّ العديد من وسائل التواصل والإعلام إعتمدت على المبالغة وتحريف الموضوع إنتقاداً أو تأيداً أو هجوماً، فيما لم تطِل النظر والتدقيق في الوثيقة التي أصدرها الفاتيكان حول «التبريكات» وهي الأبرز في إطار الحفاظ على كرامة الشخص البشري. والدليل، لقد تلهى الرأي العام، بتصريح البابا فرنسيس حول المثلية الجنسية وتمّ تحريفه في إتجاهات عديدة.
وليس جديداً تعرّض الفاتيكان للهجمات والإنتقادات، ما يدلّ على قوة الدعاية أو «البروبغندا»، المتحكّمة في زمام أمور العامة وإدارة الرأي العام. وفي المقالة هذه إضاءة موضوعية مقابل التطرّف في الدعاية والتسويق للفكرة، أو العدائية العشوائية والعنيفة التي تفرض على الرأي العام .
وفي هذا السياق، أصدر «مجمع عقيدة الإيمان» في الكنيسة الرومانية وثيقة تحت عنوان «Fiducia Suplicans»، تضَع المسألة في إطارها الصحيح وفقاً لعقيدة الكنيسة الكاثوليكة والإنجيل وأعمال الرسل.
المثليون والتعاليم الكاثوليكية
يلفت الأب حلو إلى أنّه بناءً على ما ذكر في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: «وَكَذلِكَ الذُّكُورُ أَيْضًا تَارِكِينَ اسْتِعْمَالَ الأُنْثَى الطَّبِيعِيَّ، اشْتَعَلُوا بِشَهْوَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَاعِلِينَ الْفَحْشَاءَ ذُكُورًا بِذُكُورٍ، وَنَائِلِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ جَزَاءَ ضَلاَلِهِمِ الْمُحِقَّ»، يوضّح الأب حلو أنّ كلّ إنسان معرّض لارتكاب «الخطيئة"»، والخطيئة الأصلية تعكس شهوات الإنسان كافّة، أكان على صعيد شهوة العين، الجسد، التمسّك بالأمور الحياتية، لذلك من مسؤولية الإنسان أن يؤدّب نفسه بنفسه أياً يكن مصدر الشهوة. فالقدّيس أغسطينوس تحدّث عن حروب روحية في هذا الإطار ويعتبر أغسطينوس أنّ «الكبرياء هي أول خطيئة تغلبت على الإنسان.. وهي آخر خطيئة يتغلب عليها الإنسان»، أي أنّ أنواع الخطيئة متعدّدة وليس الإنسان من يختار أي منها يُدان، كما أنّ الميول الجنسية تندرج ضمن خطيئة «الشهوات».
ويضيف من جهة أخرى، يتعرّض المثليون لاضطهاد كبير ونبذ وإقصاء وهذا يتعارض مع رسالة الأخوة الإنسانية التي تدعو إليها الكنيسة، على الرغم من أنّ غالبيتهم هم ضحايا جروح قديمة ومشاكل نفسية، نتيجة عنف أو تحرّش تعرّضوا له خلال طفولتهم. إلى ذلك، يعالج الأب دومينيك حلو الكثير من هذه الحالات، بدلاً من الإدانة والحكم على الأشخاص، ويعتبر أّنّه من واجب الكنيسة أن تعالجهم وتصغي إليهم وتفتح أبوابها لكلّ أبناء الله، المدعوين إلى التوبة. ويوضّح النقاط الأساسية التي جاءت في الوثيقة الجديدة للفاتيكان.
وثيقة الفاتيكان
تفصّل الوثيقة نوعين من التبريك التبريك الليتورجي «rituelle liturgique» ، والتبريك البسيط «elleritu simple»
الأولى من شأنها المباركات المتعلّقة بأسرار الكنيسة السبع (الزواج، الإفخارستية، مسحة المرضى، المعمودية، التوبة، الكهنوت… )هذا فيما يتعلّق بالتبريك الليتورجي، والثانية تقوم على السماح للكاهن بمباركة الأفراد على إختلاف ميولهم.
«لقد ورد في مقدمة الوثيقة عدة جمل قوية لا تدع مجالاً للشك: «يبقى هذا الإعلان ثابتاً على عقيدة الكنيسة التقليدية في ما يتعلق بالزواج، ولا يقبل أي نوع من الطقوس الليتورجية أو البركات المشابهة للطقس الليتورجي الذي يمكن أن يسبب البلبلة». نحن نتصرف أمام الأزواج غير الشرعيين «من دون التأكيد رسميًّا على وضعهم أو تعديل بأي شكل من الأشكال تعليم الكنيسة الدائم حول الزواج». «لا يمكن قبول الطقوس والصلوات التي يمكنها أن تخلق التباسًا بين ما يشكل الزواج، كـ «إتحاد حصري وثابت وغير قابل للانحلال بين رجل وامرأة، ومنفتح بشكل طبيعي على إنجاب الأبناء» وما يناقضه. يعتمد هذا الاعتقاد على عقيدة الزواج الكاثوليكية الدائمة. فقط في هذا السياق تجد العلاقات الجنسية معناها الطبيعي والكافي والإنساني بالكامل. وعقيدة الكنيسة في هذا الشأن تبقى ثابتة»(بيان دائرة « عقيدة الإيمان» حول قبول الوثيقة- فاتيكان نيوز).
يوضّح الأب حلو، أنّ الكنيسة الكاثوليكية لم تمنح سرّ الزواج المقدس للمثليين. فقد أوضحت حاضرة الفاتيكان أنّ الإعلان هذا لا يتعلّق مطلقًا بقبول وضع المثليين ولا تعديلاً لأي تعليم من تعاليم الكنيسة الثابتة حول سرّ الزواج، ولا أيضًا بداية أو مقدمة لمنظومة جديدة تتعلق بهذه الفئة. بل سمحت، للكهنة أن يمنحوا بركة خاصة للمثليين، وهذا يختلف تمامًا عن سرّ الزواج في الكنيسة، الذي أسّسه الله بين رجل وإمرأة. فالعلاقات الجنسية الشرعية تكون فقط في سياق الزواج بين رجل وإمرأة، أمّا فالعلاقات المثلية فهي خارج إطار سرّ الزواج الكنسي.
أما فيما يخصّ التبريك البسيط (وتسمى أيضاً البركة الرعوية) فهي تعطى للناس على أمل أن يغيّرهم الروح القدس، فيحلّ عليهم ويقودهم إلى طريق التوبة. إنّ منح البركة للمثليين قد يفتح لهم باب التوبة والحياة الأبدية. وهذا ما تنادي به الكنيسة عندما تدعو أعضائها إلى التوبة وطلب المغفرة.
كما أنّ المسيحية تبنى على الرحمة، بعيداً من الإدانة والإقصاء والعنف والأذية ونبذ الآخر المختلف، وكما جاء في الإنجيل المقدّس:« يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!» (مت 7: 5).
ويشير إلى أنّه ليس جديداً أنّ هناك الكثير من النواب أوالمسؤولين في أوروبا وأميركا، الذين ينتمون إلى لوبي خاص بالمثليين، فيحاولون نشر أفكارهم حول العالم، مثل محاولة نشر مفهوم الأنثوية المدمّرة.
وتبقى الكنيسة رأس حربة في مواجهة كلّ هذه الأفكار التي تسلب الحرية الحقيقية من الإنسان، من دون التعرّض للكرامة البشرية، كما جاء في الوثيقة الأخيرة الصادرة عن الفاتيكان، حيث تعرض قائمة من الإنتهاكات الجسيمة للكرامة البشريّة، أي كل ما هو ضد الحياة نفسها، كأي نوع من أنواع القتل والإبادة الجماعية والإجهاض والقتل الرحيم والإنتحار الطوعي. وإنّما أيضًا كل ما ينتهك سلامة الشخص البشري، مثل التشويه والتعذيب الذي يلحق بالجسد والعقل، والقيود النفسية.
والجدير ذكره، أنّ هناك كتباً عديدة ل«جوزف نيكولوزي» ( Joseph Nicolosi هوعالم نفس سريري أميركي) مُنع نشرها في العالم، وهي تعنى بمعالجة الميول الجنسية، كما أنّ هناك لائحة يطول ذكرها عن أسماء حاولت تصحيح مسألة المثلية.
كما أنّ التدريس في المدارس الأجنبية قد بات يمنع تعليم الأطفال أنّ هناك أنثى وذكراً، ناهيك عن الترويج للمثلية عبر الدعايات، الأفلام وحتى برامج الأطفال. على سبيل المثال، قدّم مسلسل الرسوم المتحركة البريطاني Peppa Pig (بيبا بيغ) الذي يجسد شخصية خنزير ويحظى بشعبية كبيرة بين الأطفال حول العالم، للمرة الأولى وشخصيّتا الوالدتين مثليتين، في خطوة لقيت إشادة من أوساط كثيرة ومنها مجتمعات المثليين.
شروط التطبيق
وزيادة في الإيضاح جاء في البيان حول الوثيقة الذي نشر على الموقع الرسمي للفاتيكان، إنّ الأمر يتعلّق ببركات «رعوية» من دون شكل ليتورجي فلا موافقة على الوضع الذي يعيش فيه هؤلاء الأشخاص ولا تُبرّير.
وتجيز الوثيقة لكلّ أسقف التصرّف وفقاً للسياق الإجتماعي والمحلي، إذ توجد في عدد من البلدان قضايا ثقافية وحتى قانونية تتطلب وقتًا وإستراتيجيات رعوية تذهب أبعد من المدى القصير. فإذا كانت هناك قوانين تدين بالسجن، وفي بعض الحالات بالتعذيب وحتى الموت، لمجرد إعلان الشخص عن نفسه مثليًا جنسيًا، فمن البديهي أن تكون البركة أمرًا غير حكيم. ومن الواضح أنّ الأساقفة لا يريدون تعريض الأشخاص المثليين للعنف. ولكن يبقى من المّهم
ألّا تدعم هذه المجالس الأسقفية عقيدة تختلف عن عقيدة الإعلان الذي أقره البابا، لأنّها عقيدة ثابتة، وإنّما أن تقترح ضرورة الدراسة والتمييز للعمل بحكمة رعوية في مثل هذا السياق. في الحقيقة، هناك عدد غير قليل من البلدان التي تدين المثلية الجنسية وتحظرها وتجرمها بدرجات متفاوتة. في هذه الحالات، بعيدًا عن مسألة البركات، هناك مهمة رعوية كبيرة وواسعة النطاق، تشمل الدفاع عن الكرامة البشرية ..
وفي الخلاصة ، إنّ البابا فرنسيس منذ إنتخابه العام 2013 يعلن أنّ أبواب الكنيسة مفتوحة للجميع.
وقد جاء في عظته لمناسبة إختتام الجمعية العامة العادية السادسة عشرة لسينودس الأساقفة خلال القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس في روما:
«كنيسة تكون خادمة للجميع، وخادمة للآخرين. كنيسة لا تطلب أبدًا شهادة حسن سيرة وسلوك، بل تقبل وتخدم وتحبّ. كنيسة أبوابها مفتوحة، وتكون ميناء رحمة. وكما قال القديس يوحنا الذهبي الفم: «الرجل الرحيم هو ميناء للمحتاجين: الميناء يستقبل ويحرّر جميع الغرقى من الخطر؛ سواء كانوا أشرارًا أو صالحين أو أيًا كانوا [...] الميناء يأويهم داخل خليجه. لذلك، أنت أيضًا، عندما ترى إنسانًا على الأرض قد غرق في سفينة الفقر، لا تحكم عليه، ولا تسأل عن سلوكه، بل حرّره من شقائه».