وطنٌ أم Puzzle؟!

وطنٌ أم Puzzle؟!

  • ٢٢ أيار ٢٠٢٤
  • أنطوان الخوري طوق

إنّه لمشهدٌ غريب عجيب، هناك هدير صواريخ وقذائف وهنا «حرتقة» صحون وكؤوس وكأنّ لبنان لبنانان وأكثر..

في ستينيّات القرن الماضي، رفع الرئيس صائب سلام شعار «لبنان واحد لا لبنانان»، في وجه الإنقسام والتنافر اللبناني عقب أحداث سنة 1958. وقد ألقى محاضرة في دار الندوة اللبنانية لمدة ساعة كاملة لشرح هذا الشعار. هو إنقسام قائم منذ إعلان لبنان الكبير سنة 1921. وكان يعبّر عن نفسه بسلسلة من الأزمات والإنتفاضات والحروب الأهلية إلى اليوم.
وهكذا وبعد إنقضاء مئة عام على هذا الإعلان، أضحى اللبنانان اللذان تخوّف منهما الرئيس صائب سلام لبنانات، إذ لكلّ مجموعة ولكل بقعة جغرافية لبنانها الخاص بها.
وقد ازداد هذا التشظّي اللبناني حدّةً مع سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة، إلى رئاسة المجلس النيابي فإلى المعابر الحدودية والمرافق الحيويّة، والمحاكم والقضاء وعلاقات لبنان الخارجية. يُعلن الحرب ويُهادن ساعة يشاء، ويستقدم إلى لبنان من يشاء من أجانب رسميين وحركات سياسية غريبة وتنظيمات مسلّحة تستبيح الأرض اللبنانية والسيادة الوطنية.
لقد ابتلعت الدويلة المسلحة الدولة اللبنانية المفكّكة والمنهارة لا سيما بعد ارتباط لبنان الرسمي بالسياسات الإيرانية، ونتيجة كل ذلك كثرت دعوات الإنفصال والفدرلة، وكأنّ الصراع اللبناني صراع أبدي لا شفاء منه بين مفهومين وثقافتين وطنياً وسياسياً واجتماعياً وإيديولوجياً، فغدا الإنقسام عامودياً حاداً في ظلّ عدم توازن قوى مريع.

ولعلّ أبرز دليل على هذا الإنقسام العامودي ما يجري في الجنوب وما يجري في بقية المناطق في الداخل اللبناني، هناك حرب تحت عناوين مشاغلة ومساندة وربط مُحكم بالحرب في غزّة وبالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبالمصالح والسياسات الإيرانيّة، وهنا في الداخل لا مبالاة تعبّرعن نفسها بالسّهر والحفلات الموسيقيّة واللهو في المنتجعات البحرية والجبليّة، وبإزدحام المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية وكأنّ الحرب في الجنوب على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلّة هي حرب حزب الله وحده، وكأنّ الذين يسقطون في الجنوب جرّاء الغارات الإسرائيلية ينتمون إلى شعب آخر وبلاد أخرى. فاللبنانيون بأكثريتهم الساحقة غير معنيين بحرب حزب الله مع أنّ تداعياتها وكلفتها المادية والمعنوية والسياسية تطالهم جميعاً، ومع أنّ الذين هجروا بيوتهم وأرزاقهم وأعمالهم ومدارسهم هم لبنانيون.
فبالرغم من حجز أموال المودعين وانهيار العملة الوطنية والبطالة والغلاء الفاحش وتفاقم الهجرة الشبابية، يزدهر السهر وتُفتتح المطاعم الجديدة وتنشط الحركة المسرحية، ومعارض الكتب والمعارض الفنية ومسابقات ملوك الجمال وعروض الأزياء، وكأنّ اللبنانيين يعبّرون بذلك عن توقهم للحياة اليومية الطبيعية والبسيطة بعد كلّ هذه السنين من الأزمات والحروب المتنقلة والدوران في الحلقات المفرغة بعدما شبعوا موتاً وهجرةً وتهجيراً.
إنّه لمشهدٌ غريب عجيب، هناك موت وخراب وحرائق في حقول التبغ والزيتون، وهنا سهر في ظلّ المسيّرات الإسرائيلية التي تزرع السماء اللبنانية، هناك هدير صواريخ وقذائف وهنا «حرتقة» صحون وكؤوس وكأنّ لبنان لبنانان وأكثر.
فبالرغم من تضامن معظم اللبنانيين إنسانياً مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض يومياً إلى إبادة جماعية، ومع غزّة الجريحة بأطفالها ونسائها وشيوخها ضحايا الغضب والثأر التوراتي والهمجية الإسرائيلية والتواطؤ والصمت الغربي الرسمي «المتمدّن»، فإنّ معظم اللبنانيين يرفضون هذه الحرب في الجنوب اللبناني ولا يعتبرونها قضيتهم الوطنية، وكأنّهم في رفضهم ولا مبالاتهم يحتجّون على ثقافة الموت ودعوات الاستشهاد في سبيل الغير في ظلّ الجبهات العربية المقفلة والتي تلعب دور الوسطاء في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فاللبنانيون مشغولون بيومياتهم لا بالآخرة ولا بالإرتقاء شهداء على طريق القدس.
كيف يمكننا تفسير هذه اللامبالاة، هل هو نوع من التعوّد على الحروب التي اكتوى بنارها اللبنانيون طيلة عقود من الزمن؟
هل هو الإنقسام اللبناني المزمن؟ هل هي الطائفية والمذهبية التي تلعب أدوارها في الإرتباط بالخارج وفي التناحر والتباعد؟ أم هي إرادة الحياة اللبنانية وعدم الإستسلام لمصائر يخطّها الأقوياء بسلاحهم وتفاهماتهم السريّة والعلنيّة من تحت ومن فوق الطاولة مع «الشيطان الأكبر»؟
وهل هذا العزوف اللبناني الشعبي هو نوع من الإحتجاج على معظم القيادات السياسية الخائفة والمترددة والجبانة والعاجزة عن انتخاب رئيس للبلاد يفاوض الموفدين والسفراء بإسم اللبنانيين بعد إقفال المجلس النيابي؟ إذا أنّ بعض القيادات يتلذّذون بخلوّ موقع الرئاسة ليلعبوا أدوارهم المشتهاة. قياداتٌ منصرفة إلى مزايداتها وممحكاتها ومصالحها ومواقع نفوذها وغريبة عن أوجاع الناس وتطلعاتهم.
لقد كان من عادة اللبنانيين اللجوء إلى تخزين المواد الغذائية والأدوية والمحروقات في الحروب، فما بالهم منصرفون إلى بعثرة ما نجا من سرقة أموالهم بدلاً من «ضبضبة» قروشهم البيضاء للأيام السود؟ كما أنّ غالبية روّاد المطاعم والملاهي هم من الشباب، فهل هذا يعني استنكاف الشباب عن الإهتمام بالشأن العام والشغل في السياسة أو أنّهم يائسون من التغيير وتعديل موازين القوى من قبل معارضة مفككة؟ وهل في قرف الشباب جهلٌ بما يجري أم يأسٌ من إيجاد حلول على أيدي هذه المنظومة الفاسدة مع أنّ العديد منهم منخرط في جيوش إلكترونية غبّ الطلب؟ وهل في لامبالاتهم قبولٌ بما يجري أو هروبٌ من الواقع أو مقاومة لثقافة الموت وأدبيات الحروب العبثية المجانية وأدبيات التخوين والتكفير؟
هل هذا وطن أم Puzzle يُفكك ويُعاد تركيبه كل عقدين من الزمن مع فقدان بعض القطع التي تجعل اللوحة ناقصة ومشوّهة ومأزومة؟  إنّه وطنٌ تعدّدي متنوّع وجميل تضرب جذور حضارته عميقاً في التاريخ وقدّ حولوه إلى Puzzle.